وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (١) وهو هدم للقاعدة المشهورة : بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة. والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله : المستضعفين ، لأنها في معنى : «إلا الذين استضعفوا فجاء بيانا وتفسيرا لذلك ، لأنّ الاستضعاف يكون بوجوه ، فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل. والثاني مندرج تحت الأول ، لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل. وروي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية ، فقال جندب بن ضمرة الليثي : ويقال : جندع بالعين ، أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة ، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم.
(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) عسى : كلمة اطماع وترجية ، وأتى بها وإن كانت من الله واجبة ، دلالة على أنّ ترك الهجرة أمر صعب لا فسحة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني. وقيل : معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل ، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم كما قال صلىاللهعليهوسلم : «إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
(وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) تأكيد في وقوع عفوه عن هؤلاء ، وتنبيه على أنّ هذا المترجي هو واقع ، لأنه تعالى لم يزل متصفا بالعفو والمغفرة.
(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) قيل : نزلت في أكثم بن صيفي ، ولما رغّب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة ، ليذهب عنه ما يتوهم وجوده في الغربة ومفارقة الوطن من الشدة ، وهذا مقرر ما قالته الملائكة : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (٢).
ومعنى مراغما : متحولا ومذهبا قاله : ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم. وقال مجاهد : المزحزح عما يكره. وقال ابن زيد : المهاجر. وقال السدي : المبتغى للمعيشة. وقرأ الجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : مرغما على وزن مفعل كمذهب. قال
__________________
(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٧.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٧.