كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعا على غير عمد قيل : (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) أي كأنه على عمد وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف (وَظَنُّوا) هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين ، وقال المفسّرون : معناه أيقنوا ، وقال الزمخشري : علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة ، فإنه يكون بمعنى الإتقان ، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (١) في البقرة فأغنى عن إعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليهالسلام الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبق شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديّا يقرأ التوراة إلّا اهتز وأنغض لها رأسه انتهى. وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب إذا قرؤوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّب المكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة.
(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). قرأ الأعمش (وَاذْكُرُوا) بالتشديد من الاذكار ، وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرىء وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل في البقرة.
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) روي في الحديث من طرق أخذ من ظهر آدم ذرّيته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري قال من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) وقررهم وقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وكأنهم (قالُوا بَلى) أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك وباب التمثيل واسع في كلام
__________________
(١) البقرة : ٢ / ٦٣.