(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرّعب في قلوب الكفار وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم وبنانهم حرضهم على الصبر عند مكافحة العدوّ ونهاهم عن الانهزام وانتصب (زَحْفاً) على الحال ، فقيل من المفعول أي لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفرّوا فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، وقيل من الفاعل أي وأنتم زحف من الزحوف وكان ذلك إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزموا وهم اثنا عشر ألفا بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ ، وقيل حال من الفاعل والمفعول أي متزاحفين ولم يذكر ابن عطية إلا ما يدل على أنه حال منهما قال (زَحْفاً) يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص أي يزحف بعضهم إلى بعض. وقيل انتصب (زَحْفاً) على المصدر بحال محذوفة أي زاحفين زحفا وهذا الذي قيل محكم فحرم الفرار عند اللقاء بكلّ حال. وقيل كان هذا في الابتداء الإسلام حيث كان الأمر بالمصابرة أن يواقف مسلم عشرة كفار ثم خفّف فجعل واحد في مقابلة اثنين ويأتي حكم المؤمنة الفارّة من ضعفها في آية التخفيف وعدل عن الظهور إلى لفظ (الْأَدْبارَ) تقبيحا لفعل الفار وتبشيعا لانهزامه وتضمّن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة.
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعّد من ولّى دبره وقت لقاء العدوّ وناسب قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ) كان المعنى فقد ولّى مصحوبا بغضب الله وعدل أيضا عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغة في التقبيح والذمّ إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدّا ألا ترى إلى قول الشاعر :
فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا |
|
ولكن على أقدامنا تقطر الدما |
قال في التحرير : وهذا النوع من علم البيان يسمى بالتعريض عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم وخساسة منزلتهم وبعضهم يسميه الإيماء وبعضهم يسميه الكناية وهذا ليس بشيء فإنّ الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح انتهى ، والظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد إذ وعوض منها التنوين هي قوله إذ لقيتم الكفار تعقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فرّ ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس كبيرة وقد فرّ الناس يوم أحد فعفا الله عنهم وقال الله فيهم ويوم حنين (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (١) ولم يقع على ذلك تعنيف انتهى ، وهذا القول بأن
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٥.