من قبلكم فيه إبهام ، نصّ على طوائف بأعيانها ستة ، لأنهم كان عندهم شيء من أنبائهم ، وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب ، وكانوا أكثر الأمم عددا ، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء : نوح أول الرسل ، وابراهيم الأب الأقرب للعرب وما يليها من الأمم مقاربون لهم في الشدّة وكثرة المال والولد. فقوم نوح أهلكوا بالغرق ، وعاد بالريح ، وثمود بالصيحة ، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم ، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم ، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة ، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل ، وأمطار الحجارة عليهم.
قال الواحدي : معنى الائتفاك الانقلاب ، أفكته فائتفك أي قلبته فانقلب. والمؤتفكات صفة للقرى التي ائتفكت بأهلها ، فجعل أعلاها أسفلها. والمؤتفكات مدائن قوم لوط. وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح. وائتفاكهن : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر. قال ابن عطية : والمؤتفكات أهل القرى الأربعة. وقيل : التسعة التي بعث إليهم لوط عليهالسلام ، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع ، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان :
لمنطق مستبين غير ملتبس |
|
به اللسان ورأي غير مؤتفك |
أي غير منقلب متصرّف مضطرب. ومنه يقال للريح : مؤتفكة لتصرفها ، ومنه (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (١) والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب انتهى.
وفي قوله : ألم يأتهم ، تذكير بأنباء الماضين وتخويف أن يصيبهم مثل ما أصابهم ، وكان أكثرهم عالمين بأحوال هذه الأمم ، وقد ذكر شيء منها في أشعار جاهليتهم كالأفوه الأزدي ، وعلقمة بن عبدة ، وغيرهما. ويحتمل أن يكون قوله : ألم يأتهم تذكيرا بما قص الله عليهم في القرآن من أحوال هؤلاء وتفاصيلها. والظاهر أنّ الضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة ، والجملة شرح للنبأ. وقيل : يعود على المؤتفكات خاصة ، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحدا ، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولا داعيا ، فهم رسل رسول الله ، ذكره الطبري. وقال الكرماني : قيل : يعود على المؤتفكات أي : أتاهم رسول بعد رسول. والبينات المعجزات ، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق ، لا بالنسبة إلى المكذبين. قال ابن عباس : ليظلمهم ليهلكهم حتى يبعث فيهم
__________________
(١) سورة المائدة : ٥ / ٧٥.