(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) : لما ذكر تعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين ، فجعل الشمس ضياء أي : ذات ضياء أو مضيئة ، أو نفس الضياء مبالغة. وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير ، فيكون ضياء مفعولا ثانيا. ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالا ، والقمر نورا أي : ذا نور ، أو منور ، أو نفس النور مبالغة ، أو هما مصدران. وقيل : يجوز أن يكون ضياء جمع ضوء كحوض وحياض ، وهذا فيه بعد. ولما كانت الشمس أعظم جرما خصت بالضياء ، لأنه هو الذي له سطوع ولمعان ، وهو أعظم من النور. قال أرباب علم الهيئة : الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعا وستين مرة ، والقمر ليس كذلك ، فخص الأعظم بالأعظم. وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) (١) وقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) يقتضي أنّ النور أعظم وأبلغ في الشروق ، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور. فقال ابن عطية : لفظة النور أحكم أبلغ ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون ، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام. ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحدا ، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة. فمعنى الآية : أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام ، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون. ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد ، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقتضت هذه الآية.
وقرأ قنبل : ضياء هنا ، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء. ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لامه عينا ، فكانت همزة. وتطرفت الواو التي كانت عينا بعد ألف زائدة فانقلبت همزة ، وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما ، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل ، والظاهر عود الضمير على القمر أي : مسيره منازل ، أو قدره ذا منازل ، أو قدر له منازل ، فحذف وأوصل الفعل ، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) (٣) وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧.
(٢) سورة النور : ٢٤ / ٣٥.
(٣) سورة يس : ٣٦ / ٣٩.