البيوت ، أنه لا يريد بقوله بيوتا الكوى التي في الجبال ومتجوف الأشجار ولا الخلايا ، وإنما يراد البيوت المسدسة التي تبينها هي. وظاهر من في قوله : من كل الثمرات أنها للتبعيض ، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلا. قال ابن عطية : إنما تأكل النوّار من الأشجار.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : يحدث الله تعالى في الهواء ظلا كثيرا يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل الترنجبين وهو محسوس ، وقليلا لطيف الأجزاء صغيرها ، وهو الذي ألهم الله تعالى النحل التقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار ، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئا من تلك الأجزاء ، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها ، فالمجتمع من ذلك هو العسل. وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية ، لا للتبعيض انتهى. وظاهر العطف بالفاء في فاسلكي أنه بعقيب الأكل أي : فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك ، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة ، والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران. وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد ، ثم عادت إلى مكانها الأول. وقيل : سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي ما أكلت أي : في سبل ربك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ومنافذ مأكلك. وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف ، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به. وقيل : المراد بقوله ثم كلي ، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك ، وهذا القول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما ، إلا أنّ كلي بمعنى اقصدي الأكل ، مجاز أضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه تعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها. وقال مجاهد : ذللا غير متوعرة عليها سبيل تسلكه ، فعلى هذا ذللا حال من سبيل ربك كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) (١) وقال قتادة : أي مطيعة منقادة. وقال ابن زيد : يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم ، فعلى هذا ذللا حال من النحل كقوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) (٢) ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله : يخرج من بطونها شراب ، وهو العسل. وسماه شرابا لأنه مما يشرب ، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن ، وثمرة النخيل والأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن.
__________________
(١) سورة الملك : ٦٧ / ١٥.
(٢) سورة يس : ٣٦ / ٧٢.