لمدركون. وقيل : حين قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، قيل : والأول هو الصواب ، لأنّ جواب كل من القولين مذكور بعده وهو : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (١) وقوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) (٢) الآية وعلق توكلهم على شرطين : متقدم ، ومتأخر. ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول ، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدما عليه. فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من الله ، وإظهار الخضوع وترك التمرّد ، والإيمان عرفان القلب بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته ، وأنّ ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره. وإذا حصل هذان الشرطان فوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ، واعتمد عليه في كل الأحوال. وأدخل أن على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة ، كما تقول : إن كنت رجلا فقاتل ، تخاطب بذلك رجلا تريد إقامة البينة. وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه. وأجابوا موسى عليهالسلام بما أمرهم به من التوكل على الله لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم ، ثم سألوا الله تعالى شيئين : أحدهما : أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين. قال الزمخشري : أي موضع فتنة لهم ، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا ، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا. وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم : معنى القول الآخر قال : المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أن هلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق. وقالت فرقة : المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فتعذبهم على ذلك في الآخرة. قال ابن عطية : وفي هذا التأويل قلق. وقال ابن الكلبي : لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم. والآخر : ينجيهم من الكافرين أي : من تسخيرهم واستعبادهم. والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أن لا يفتنوا عن دينهم ، وأن يخلصوا من الكفار ، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم ، وأخروا سلامة أنفسهم ، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان.
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولا في قوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ) (٣) وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعا للعبادة والصلاة كما تقول : توطن
__________________
(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦٢.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٩.
(٣) سورة يونس : ١٠ / ٧٥.