كان أولا موسى عليهالسلام يتوقع من فرعون أذى كما قال (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) (١) فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال له الله : لا تخف وثق بحماية الله ، فصال على فرعون صولة المحمي. وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك. ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد ، وملعون في قول ابن عباس ، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران ، ومسحور في قول الضحاك قال : رد عليه مثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم : ما ثبرك عن هذا؟ أي ما منعك وصرفك. وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبورا وهي أن الخفيفة ، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء ، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه. ومن قومه والضمير في (مِنْ بَعْدِهِ) عائد على فرعون أي من بعد إغراقه ، و (الْأَرْضَ) المأمور بسكناها أرض الشام ، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليهالسلام ووعد الآخرة قيام الساعة.
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً).
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) هو مردود على قوله (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) (٢) الآية وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في (أَنْزَلْناهُ) عائد على موسى عليهالسلام وجعل منزلا كما قال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٣) أو عائد على الآيات التسع ، وذكر على المعنى أو عائد على الوعد المذكور قبله. وقال أبو سليمان الدمشقي (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي بالتوحيد ، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي بالوعد والوعيد والأمر والنهي. وقال الزهراوي : بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس ، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره. وقال الزمخشري : وما أنزلنا القرآن إلّا بالحكمة المقتضية لإنزاله وما نزل إلّا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، وما أنزلناه من السماء إلّا بالحق
__________________
(١) سورة طه : ٢٠ / ٤٥.
(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.
(٣) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٢.