ذلك مناف أي لأن العصيان مناف وهو كلام صحيح. وقوله : فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي هذا لا يسلم بل هو مدلول عليه ومنوي لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض كما بينا. وأما قوله : لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به هذا أيضا لا يسلم. وقوله في جواب السؤال لأن قوله (فَفَسَقُوا) يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئا وأنت تدّعي إضمار خلافه. قلنا : نعم يدعي إضمار خلافه ودل على ذلك نقيضه. وقوله : ونظير أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف. قلت : ليس نظيره لأن مفعول أمر لم يستفض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه ، بل لا يكاد يستعمل مثل شاء محذوفا مفعوله لدلالة ما بعده عليه ، وأكثر استعماله مثبت المفعول لانتفاء الدلالة على حذفه. قال تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (١) (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢) (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) (٣) (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (٤) (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) (٥) أي به ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة. وقال الشاعر :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
وقال أبو عبد الله الرازي : ولقائل أن يقول كما أن قوله أمرته فعصاني يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ، أن كونه معصية ينافي كونها مأمورا بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق. هذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصرّ صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكروه ، وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك عنادا وأقدموا على الفسق انتهى.
القول الثاني : أن معنى (أَمَرْنا) كثرنا أي كثرنا (مُتْرَفِيها) يقال : أمر الله القوم أي كثرهم حكاه أبو حاتم عن أبي زيد. وقال الواحدي : العرب تقول : أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم انتهى. وقال أبو علي الفارسي : الجيد في أمرنا أن يكون بمعنى كثرنا ، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث : «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النسل ، يقال : أمر الله المهرة أي كثر ولدها ، ومن أنكر أمر الله القوم بمعنى كثرهم لم يلتفت إليه لثبوت ذلك لغة ويكون من باب ما لزم وعدّي بالحركة
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٨.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٤٠.
(٣) سورة الطور : ٥٢ / ٣٢.
(٤) سورة الأعراف : ٧ / ٢٩.
(٥) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٠.