كقوله في الأنعام (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) (١) أي من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وأبعد من ذهب إلى أن التقدير (مِنْ قَبْلُ) بلوغه أو (مِنْ قَبْلُ) نبوته يعني حين كان في صلب آدم. وأخذ ميثاق الأنبياء ، أو من قبل محمد صلىاللهعليهوسلم لأنها محذوفات لا يدل على حذفها دليل بخلاف (مِنْ قَبْلُ) موسى وهارون لتقدم ذكرهما. وقربه ، والضمير في (بِهِ) الظاهر أنه عائد على إبراهيم. وقيل : على الرشاء وعلمه تعالى أنه علم منه أحوالا عجيبة وأسرارا بديعة فأهله لخلته كقوله : الله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وهذا من أعظم المدح وأبلغه إذ أخبر تعالى أنه آتاه الرشد وأنه عالم بما آتاه به عليهالسلام.
ثم استطرد من ذلك إلى تفسير الرشد وهو الدعاء إلى توحيد الله ورفض ما عبد من دونه. و (إِذْ) معمولة لآتينا أو (رُشْدَهُ) و (عالِمِينَ) وبمحذوف أي اذكر من أوقات رشده هذا الوقت ، وبدأ أولا بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال ثم عطف عليه (قَوْمِهِ) كقوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢) وفي قوله (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) تحقير لها وتصغير لشأنها وتجاهل بها مع علمه بها وبتعظيمهم لها. وفي خطابه لهم بقوله (أَنْتُمْ) استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم ، وعكف يتعدى بعلى كقوله (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) (٣) فقيل (لَها) هنا بمعنى عليها كما قيل في قوله (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) (٤) والظاهر أن اللام في (لَها) لام التعليل أي لتعظيمها ، وصلة (عاكِفُونَ) محذوفة أي على عبادتها. وقيل : ضمن (عاكِفُونَ) معنى عابدين فعداه باللام.
وقال الزمخشري : لم ينو للعاكفين محذوفا وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله فاعلون العكوف لها أو واقفون لها انتهى.
ولما سألهم أجابوه بالتقليد البحت ، وأنه فعل آبائهم اقتدوا به من غير ذكر برهان ، وما أقبح هذا التقليد الذي أدى بهم إلى عبادة خشب وحجر ومعدن ولجاجهم في ذلك ونصرة تقليدهم وكان سؤاله إياهم عن عبادة التماثيل وغايته أن يذكروا شبهة في ذلك فيبطلها ، فلما أجابوه بما لا شبهة لهم فيه وبدا ضلالهم (قالَ : لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في حيرة واضحة لا التباس فيها ، وحكم بالضلال على المقلدين والمقلدين وجعل الضلال مستقرا لهم و (أَنْتُمْ) توكيد للضمير الذي هو اسم كان قال الزمخشري :
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٨٤.
(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٤.
(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.
(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٧.