ما صنع؟ وما جاء مما ظاهره خلاف ذلك أول ، وتقدم الكلام على ذلك مشبعا في أوائل سورة الأنعام. وتقول هنا مفعول أرأيت محذوف ، لأنه تنازع على ما يوعدون أرأيت وجاءهم ، فأعمل الثاني فهو مرفوع بجاءهم. ويجوز أن يكون منصوبا بأرأيت على إعمال الأول ، وأضمر الفاعل في جاءهم. والمفعول الثاني هو قوله : (ما أَغْنى عَنْهُمْ) ، وما استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم في تلك السنين التي متعوها؟ وفي الكلام محذوف يتضمن الضمير العائد على المفعول الأول ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم تمتعهم حين حل ، أي الموعود به ، وهو العذاب؟ وظاهر ما فسر به المفسرون ما أغنى : أن تكون ما نافية ، والاستفهام قد يأتي مضمنا معنى النفي كقوله : (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (١)؟ بعد قوله : (أَرَأَيْتَكُمْ) (٢) في سورة الأنعام ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون. وجوز أبو البقاء في ما أن تكون استفهاما ونافية. وقرىء : يمتعون ، بإسكان الميم وتخفيف التاء.
ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا وقد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله ، إن هي عصت ولم تؤمن ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣). وجمع منذرون ، لأن (مِنْ قَرْيَةٍ) عام في القرى الظالمة ، كأنه قيل : وما أهلكنا القرى الظالمة. والجملة من قوله : (لَها مُنْذِرُونَ) ، في موضع الحال (مِنْ قَرْيَةٍ) ، والإعراب أن تكون لها في موضع الحال ، وارتفع منذرون بالمجرور إلا كائنا لها منذرون ، فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة ، ومجيء الحال من المنفي كقول : ما مررت بأحد إلا قائما ، فصيح. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ، ولم تعزل عنها في قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)؟ (٤) قلت : الأصل عزل الواو ، لأن الجملة صفة لقرية ، وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في قوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٥). انتهى. ولو قدرنا لها منذرون جملة ، لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا. ومذهب الجمهور ، أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو : ما جاءني أحد إلا راكب. وإذا سمع مثل هذا ، خرجوه على البدل ، أي : إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائما ، ولا يحفظ من كلامها : ما مررت بأحد إلا قائم. فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة ، لورد المفرد بعد إلا صفة
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٧.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٤٧.
(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ١٥.
(٤) سورة الحجر : ١٥ / ٤.
(٥) سورة الأعراف : ٧ / ٢٢.