أي بين الخير وبيني ، ويكون قولهم : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) كذبا في الإخبار ، أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سرا ، ولم يشعر بهم أحد ، وقالوا تلك المقالة ، أنهم صادقون وهم كاذبون. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت : كأنهم اعتقدوا إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله ، فجمعوا بين البياتين ، ثم قالوا : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) ، فذكروا أحدهما كانوا صادقين ، فإنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ، ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ، ولم يروا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا الصدق في أنفسهم حيلة ينقصون بها عن الكذب؟ انتهى.
والعجب من هذا الرجل كيف يتخيل هذه الحيل في جعل إخبارهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) إخبارا بالصدق؟ وهو يعلم أنهم كذبوا صالحا ، وعقروا الناقة التي كانت من أعظم الآيات ، وأقدموا على قتل نبي وأهله؟ ولا يجوز عليهم الكذب ، وهو يتلو في كتاب الله كذبهم على أنبيائهم. ونص الله ذلك ، وكذبهم على من لا تخفى عليه خافية ، (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١) ، وهو قولهم ، (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) ، وقول الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٣) ، وإنما هذا منه تحريف لكلام الله تعالى ، حتى ينصر مذهبه في قوله : إن الكذب قبيح عند الكفرة ، ويتحيل لهم هذا التحيل حتى يجعلهم صادقين في إخبارهم. وهذا الرجل ، وإن كان أوتي من علم القرآن ، أوفر حظ ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ. ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة ، وكنت قريبا من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيدا في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله ، واستطردت إلى مدح كتاب الزمخشري ، فذكرت شيئا من محاسنه ، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه ، ورأيت إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك من يقف على كتابي هذا ويتنبه على ما تضمنه من القبائح ، فقلت بعد ذكر ما مدحته به :
ولكنه فيه مجال لناقد |
|
وزلات سوء قد أخذن المخانقا |
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا |
|
ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا |
ويشتم أعلام الأئمة ضلة |
|
ولا سيما إن أولجوا المضايقا |
__________________
(١) سورة الطارق : ٨٦ / ٩.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢٣.
(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٢٤.