وقرأ الجمهور : (أَمَّنْ خَلَقَ) ، وفي الأربعة بعدها بشد الميم ، وهي ميم أم أدغمت في ميم من. وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام ، أدخلت على من ، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره. قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به ، ونحو هذا من المعنى. وقدره الزمخشري : خير أما يشركون ، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛ بدأ أولا في الاستفهام باسم الذات ، ثم انتقل فيه إلى الصفات. وقال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له : ولا بد من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه. وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق ، وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (١). انتهى. وتسمية هذا المقدّر جملة ، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك ، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي ، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال : (لَكُمْ) ، أي لأجلكم ، على سبيل الامتنان ، وأن ذلك من أجلكم. ثم قال : (فَأَنْبَتْنا) ، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالا على اختصاصه بذلك ، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى. وقد رشح هذا الاختصاص بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها).
ولما كان خلق السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله ، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ، ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه ، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها). ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته ، فكيف يكون فاعلا لها؟ والبهجة : الجمال والنضرة والحسن ، لأن الناظر فيها يبتهج ، أي يسر ويفرح. وقرأ الجمهور : (ذاتَ) ، بالإفراد ، (بَهْجَةٍ) ، بسكون الهاء ، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة ، كقوله : (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (٢) ، وهو على معنى جماعة. وقرأ ابن أبي عبلة ، ذوات ، بالجمع ، بهجة بتحريك الهاء بالفتح.
(ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) : قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا ، أو لامتناع وقوعه شرعا ، أو لنفي الأولوية. والمعنى هنا : أن إنبات
__________________
(١) سورة النمل : ١٦ / ١٧.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥ ، وسورة النساء : ٤ / ٥٧.