مع الله إلها آخر. فأين دليلكم عليه؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير ، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه.
لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي ، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة ، فختم بقوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ، أي عن عبادته ، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع. ولما ذكر جعل الأرض مستقرا ، وتفجير الأنهار ، وإرساء الجبال ، وكان ذلك تنبيها على تعقل ذلك والفكر فيه ، ختم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر ، وكشف السوء ، واستخلافهم في الأرض ، ناسب أن يستحضر الإنسان دائما هذه المنة ، فختم بقوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه ، كما قال : (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) (١). ولما ذكر الهداية في الظلمات ، وإرسال الرياح نشرا ، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل ، وهم يشركون بها الله ، قال تعالى : (عَمَّا يُشْرِكُونَ). واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى.
قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وألحوا عليه ، فنزل : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، الآية. والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم ، والغيب مفعول ، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من ، وجاء مرفوعا على لغة تميم ، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب. وعن عائشة ، رضياللهعنها : من زعم أن محمدا يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على الله ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ، ولا يقال : إنه مندرج في مدلول من ، فيكون في السموات إشارة إلى ظرفا حقيقيا للمخلوقين فيهما ، ومجازيا بالنسبة إليه تعالى ، أي هو فيها بعلمه ، لأن في ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز. وأكثر العلماء ينكر ذلك ، وإنكاره هو الصحيح. ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلا ، وارتفع على البدل أو الصفة ، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء ، لأنه استثناء من نفي متقدم ، والظاهر عموم الغيب. وقيل : المراد غيب الساعة.
__________________
(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٨.