تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة ، ومن ظلمة إلى نور ، وفاعل ذلك واحد ، وهو الله تعالى ، فيجب أن يفرد بالعبادة والألوهية. وفي هذا التقليب دليل على القلب من حياة إلى موت ، ومن موت إلى حياة أخرى ، وفيه دليل أيضا على النبوة ، لأن هذا التقليب هو لمنافع المكلفين ، ولهذا علل ذلك الجعل بقوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) (١) ، وبعثة الأنبياء لتحصيل منافع الخلق ؛ وأضاف الإبصار إلى النهار على سبيل المجاز ، لما كان يقع فيه أضافه إليه ، كما تقول : ليلك نائم ، وعلل جعل الليل بقوله : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ، أي لأن يقع سكونهم فيه مما يلحقهم من التعب في النهار واستراحة نفوسهم. قال بعض الرجاز :
النوم راحة القوى الحسية |
|
من حركات والقوى النفسية |
ولم يقع التقابل في جعل النهار بالنص على علته ، فيكون التركيب : والنهار لتبصروا فيه ، بل أتى بقوله : (مُبْصِراً) ، قيدا في جعل النهار ، لا علة للجعل. فقال الزمخشري : هو مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ، لأن معنى مبصرا : لتبصروا فيه طريق التقلب في المكاسب. انتهى. والذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت في مقابله ، وحذف من آخر ما أثبت في أوله ، فالتقدير : جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه ، والنهار مبصرا لتتصرفوا فيه ؛ فالإظلام ينشأ عنه السكون ، والإبصار ينشأ عنه التصرف في المصالح ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (٢)؟ فالسكون علة لجعل الليل مظلما ، والتصرف علة لجعل النهار مبصرا وتقدم لنا الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعا في البقرة في قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) (٣).
(إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في هذا الجعل ، (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : لما كان لا ينتفع بالفكر في هذه الآيات إلا المؤمنون ، خصوا بالذكر ، وإن كانت آيات لهم ولغيرهم. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : تقدم القول في الصور في سورة الأنعام ، وهذه النفخة هي نفخة الفزع. وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام من القبور. وقيل : نفختان ، جعلوا الفزع والصعق نفخة واحدة ، واستدلوا بقوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) (٤) ، ويأتي
__________________
(١) سورة يونس : ١٠ / ٦٧ ، وسورة القصص : ٢٨ / ٧٣ ، وسورة غافر : ٤٠ / ٦١.
(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٢.
(٣) البقرة : ٢ / ١٧.
(٤) الزمر : ٣٩ / ٦٨.