فتندم. فتغير لون ذرّاك من هذا الكلام ونهض قائما وقال : يا ناصر آغا ، اعلم أن العربان جميعهم ضدك بسبب موقفك هذا ، فإن كان مرادك أن تكون كبيرا عند العثماني فانزل للشام والبس قابوقا في رأسك واجلس بالسرايا عند الوزير ، وكن كيخيا (١) واحكم على أهالي الشام ، فيأخذون لك هيبة. وأما نحن العربان ، فأنت ووزيرك وسلطان اسلامبول فلستم عندنا بثقل بعرة الجمل ، وإن كنت تقول لا تقعد في ديرتي الشامية ، فهذا كلام قوي مناسب ، وأنا أصغر وأضعف كافة قبائل عنزة (٢) (وهذا الاسم عام يطلق على جميع عرب البادية) (٣). ولكن الآن ، حال وصولي إلى قبيلتي ، سأرحل بكامل عربي إلى ديرة بغداد ، عند الدّريعي بن شعلان ، كسّار جموع العثماني. فتغيرت ألوان ناصر من هذا الكلام ، والتفت إلى الجوخدار وأخذ يفهمه بالتركي ، فابتدأ الجوخدار يتكلم بالتركي مظهرا نفسا كبيرة ، ليومه على الناس ، على حسب طرائق العثماني المشهورة. فقال له ذرّاك : لا تكن فضوليا (٤) ، فو الله العظيم ولو كنت في حماية الناصر مهنا وأنت جوخدار الوزير ، فإن أردت لا أدعك تأكل خبزا بقية عمرك. ودخل الحمق بينهما. ثم ركب ذرّاك فرسه وأخذ رمحه بيده وقال لا عليكم سلام ، واعمل يا ناصر ما تصل إليه يدك ولا تتوان. وسار إلى عربه الذين كانوا يبعدون ست ساعات عن منزلتنا. فاغتاظ ناصر من هذا الكلام وتمسك بغيه الخايب. أما أبوه مهنا فإنه تكدر جدا لما سمع الدعوى وقال لابنه : يا ناصر إنك تريد أن تكسر عمدان بيت الملحم؟ فالعمدان هي من الخشب ، فهم يضعونها في وسط البيت لأجل ارتفاعه ، وأكبر بيت يكون على أربعة عمدان. وإن كان البيت على عامدون ينقسم مناقصة ، وإن كان على ثلاثة فينقسم مثالثة ، وإن كان على أربعة ينقسم مرابعة. ووقع الخلاف بين ناصر ١ / ٢٣ وأبيه مهنا ، / وحصل بينهما غليظ الكلام ، وكثير من العربان وضعوا الحق بيد مهنا ، وخافوا على أرواحهم وسحتهم أي رزقهم من غارات العربان عليهم ، بسبب أفعال ناصر الرديئة.
ثم ثاني يوم حضر بدوي وأخبر أن ذرّاك وصل بكامل عربه وتوجه ناحية الشرق طالبا الجزيرة (أعني بين النهرين أي الفرات والدجلة) ، وأن جميع العربان قد رجت قلوبها من ناصر
__________________
(١) «كاخيا» أو كدخدا أي الموظف الكبير أو المشير الأول.
(٢) «عنازة» ، يريد عنزة وهم من عرب الشمال ، أما شمّر فهم من عرب الجنوب.
(٣) «الجول».
(٤) «غلابه».