لم تحدد المصادر المناطق الجغرافية التي كان يسيطر عليها المهددون ، ومن المعلوم أن بغداد كانت فيها مناطق عرف أهلها بميول سياسية متميزة ، ففي الكرخ وباب الطاق عرفوا بميولهم العلوية ، وفي المدينة المدوّرة والرصافة عرفوا بميولهم السنية ، والواقع أن معظم المدن الإسلامية حدثت فيها انقسامات بين أهلها ، أو عرفت بميول سياسية معيّنة ولكنها لم تصل حدّ القدرة على الانشقاق عن الدولة.
حصر المأمون المحنة بفكرة «خلق القرآن» وأشار إلى أن أقوى المدافعين عنها هم من نسبوا أنفسهم إلى السّنة ، وأنه كانت لهم هيمنة فكرية على الجمهور الأعظم والسواد الأكبر ، وأنه استغلها انتهازيون لأغراض سياسية ، إلا أنه لم يوضح العلاقة بين فكرة خلق القرآن والمنتسبين إلى السنّة ، أو علاقتها بالتيارات السياسية. ومن الواضح أنه قصد بالمنتسبين المعنيين بالحديث والفقه ، غير أن المعلومات المتوافرة لا تظهر أن هؤلاء المعنيين قد أعاروا ، قبل المحنة ، فكرة خلق القرآن اهتماما كبيرا.
ولم تخصص كتب الفقه والحديث مكانا واسعا لمعالجة القضايا المتعلقة بأحوال الخلافة وقضايا السياسة والإدارة ، وأشارت الكتب إلى أن الممتحنين كافة ، أقرّوا بفكرة خلق القرآن ، فيما عدا أربعة ، وبذلك تركت لهم الحرية في متابعة أبحاثهم دون مضايقة ، فالمحنة لم يقصد بها إيقاف دراسة الفقه والحديث وإعادة توجيهه ، ولا كانت محاولة لغرض الاعتزال واتخاذه عقيدة رسمية ، وإنما هي عمل سلبي محدود بفكرة خلق القرآن ، ولم يمتد إلى الأفكار الأخرى الأساسية عند المعتزلة ، ولا توجد إشارة إلى تحمس أقطاب الاعتزال للمحنة.
إن المصادر تذكر انفتاح المأمون على مختلف التيارات التي لم يصل تباينها حدّ التصادم ولا يحلّها مجرّد الإقرار ، بخلق القرآن. فقد ذكر في كتبه التي أرسلها إلى إسحاق بن إبراهيم ، واليه على بغداد ، أن يحضر جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين ، فحضر ستة وعشرون : فقرأ إسحاق عليهم كتاب المأمون مرتين فأجابوا إجابات مبهمة ، فكتب المأمون الى إسحاق كتابا ثانيا أن يجمع واحدا وعشرين لم يذكروا في الكتاب الأول ، فأجابوا عدا أربعة هم أحمد بن