أكثر منها حملات قوية منظمة لضمّ بلاد الترك ، ولا بدّ أن مرجع ذلك بعد هذه البلاد ، وقوة شكيمة الترك. غير أن الترك ، رغم قوّتهم العسكرية ، لم يقوموا بحركات جدية لانتزاع البلاد التي فتحها المسلمون ، ولعل من أهم أسباب موقفهم هذا هو أنهم كانوا متفرقين لا تنظمهم دولة قوية توحدهم أو حكام طموحون في التوسع.
ولما ولي العباسيون الخلافة لم يحاولوا التوسع تجاه الترك ، وفي هذا يقول البلاذري : «فلما استخلف أمير المؤمنين أبو العباس ومن بعده من الخلفاء كانوا يولون عمّالهم فينقصون حدود أرض العدو وأطرافها ، ويحاربون من نكث البيعة ونقض العهد من أهل القبلة ، ويعيدون مصالحة من امتنع من الوفاء بصلحه بنصب الحرب له» (١) ولا ريب في أن بعض أسباب قلة اهتمام العباسيين الأوائل في مدّ سلطان الدولة في أواسط آسيا أنهم نقلوا عماد جيش خراسان إلى بغداد واستخدموه في قمع الثورات وتأمين سيطرتهم على الغرب ، والوقوف بوجه الروم.
إن الحروب في أواسط آسيا بين العرب والترك في هذا الزمن المبكر لم توقف نمو علاقات سلمية بينهما. ولا يبعد أن سياسة عمر بن عبد العزيز في نشر الإسلام جعلته يمتد إلى الترك (٢) ، كما أن الحرية التي وفّرها العرب في التنقل والتجارة يسّرت قدوم أتراك إلى البلاد الإسلامية للتجارة أو لأغراض أخرى. فعندما أسّس المنصور بغداد أقطع بعض من كان في مناطق الترك قطائع فيها ، فكان في ربض حرب في الأطراف الشمالية الغربية من بغداد قطائع لأهل الختل ، وأهل بخارى ، وأهل أشتاخنج ، وبالقرب من هذا الربض كانت قطيعة لأسد بن المرزبان وهو من أهل أشتاخنج (٣). ومن المحتمل أن الخطط الكثيرة لعدد ممن نسبوا إلى مدن في إقليم خراسان والصغد كان فيها عدد من الترك.
__________________
(١) فتوح البلدان ٤٢٨.
(٢) انظر : فان فلوتن ، السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات ، وانظر : توماس ارنولد ، انتشار الإسلام ، وانظر كتابنا عمر بن عبد العزيز.
(٣) البلدان لابن الفقيه ٢٤٨ ، وانظر دراستنا «بغداد مدينة السلام» ٢ / ١٧٢.