منهم في مساحة ضيقة فوق البقع الجافة من الأرض ، واضطروا على اللجوء إلى البيوت الملوثة بجماعات يتراوح عدد أفراد كل منها بين العشرين والثلاثين ، وهم محاطون بالفساد والتفسخ ، ومحرومون من الملابس والمؤونة ، أو وسائل إشعال النار. وقد كان تراكم الجثث غير المدفونة كذلك مؤديا إلى تفاقم التأثيرات الناجمة عن تفشي الطاعون ، بتلويث الجو وجعله أشد إيذاء وإهلاكا للنفوس (١).
__________________
(١) لقد وقعت قبل هذا الطاعون المخيف في العراق طواعين أخرى كان لها تأثيرها البين في إماتة الروح فيه خلال تلك الأيام الخوالي. وأذكر فيما يلي ما وقع منها في الحقبة المنحصرة بين العقد الأخير من القرن السابع عشر للميلاد وسنة ١٨٣١ م ، أي السنة التي وقع فيها هذا الطاعون. فقد حدث قبيل وصول والي بغداد الحاج حسن باشا الكبير إلى العراق أن تفشى الطاعون فيه سنة ١٦٨٩ م وظل يفتك بالناس وتشتد وطأته مدة تزيد على الخمسة أشهر. وبلغ من ضراوته وكثرة ضحاياه أن صار يسميه البغداديون «أبو طبر» ، والمعتقد عند بعض المؤرخين أن هذا الطاعون قد فتك بمئة ألف نسمة من السكان وقضى عليهم. وقد سرت عدواه إلى بغداد من مندلي على أثر مجاعة كبيرة بدأت بالموصل والمناطق المجاورة لها ، ثم امتدت إلى العراق الأوسط والجنوبي نظرا لقلة الأمطار وجفاف الحقول. فأدى تقاطر السكان إلى بغداد بهذا السبب إلى انتقال المرض إليها وانتشاره في محلاتها. ثم عاد هذا الطاعون إلى بغداد في السنة التالية (١٦٩٠ م) ، فكان أشد فتكا وضراوة من قبل على ما يقال ودام مدة تناهز الثلاثة أشهر فمات من جرائه خلق كثير. ثم سرت عدواه إلى الجنوب حتى وصل إلى البصرة. وتقول بعض الروايات إن ضحاياه فيها قد زادوا على عدد الضحايا التي جند لها في بغداد بحيث إن الناس في البصرة قد عجزوا عن دفن موتاهم ، فصاروا يوارونهم التراب في المحل الذي كانوا يقعون فيه. وفي أواخر سنة ١٧٣٧ م تفشى الطاعون في الموصل وبقي مقيما فيها إلى السنة التي تلتها ، فبلغت إصاباته ألف إصابة في اليوم الواحد. ولم تمض سنتان على ذلك حتى ظهر الطاعون في بغداد أيضا ، فقضى على خلق كثير من سكانها.
وفي سنة ١٧٧٢ م تسلل الطاعون من استانبول إلى بغداد وظل فيها مدة تناهز الستة أشهر. ومن أجل هذا خرج الكثير من الناس إلى القرى والأرياف فرارا من شره ، ـ