على قصر داود باشا الذي كان يشغل موقعا فسيحا يمتد إلى ضفة النهر. وقد بدأ الباشا الذي يسكن الآن في دار كان يشغلها ابن من أبناء الباشوات المتأخرين ، في الأيام الأخيرة ، بإعادة تشييد السور العائد لقصر داود ليجعل منه على ما علمت ثكنة (١) لجنوده.
وليس المنظر في الجانب الآخر من النهر مما يبعث على شيء أكثر من هذا بهجة وانتعاشا. فإن الجزء الذي يشغله الآن الأعراب في الدرجة الأولى ، بعد أن كان يحتوي في السابق على دور الكثيرين من الأتراك الموسرين ، لا يزال أكثر تهدما وخرابا من الجانب الشرقي. إذ لا يمر الراكب هناك إلا من بين جدران متهدمة أو مائلة للانهدام ، وأنقاض كان في يوم من الأيام كتلة كثيفة من المساكن. أما سور المدينة في كلا الجانبين فهو متهدم كذلك ومتداع ، ولا تزال تظهر فيه الثغرات الكبيرة التي دخل منها ماء الفيضان إلى البلدة على نفس الحالة التي تركها فيها الماء المتدفق يومذاك.
ويعد المنظر خارج الأسوار في حالة فريدة من الوحشة والاكتئاب ـ فهو يعد في الحقيقة نموذجا لما تكون عليه الحالة الحاضرة في أنحاء الباشوية كلها. ففيما عدا ضفاف النهر التي تنتشر فيها بساتين النخيل (٢) إلى امتداد أميال ثلاثة من كل جهة ، يمتد سهل أجرد من جميع الجهات حتى يصل إلى أبواب السور نفسها من دون أن يحده شيء سوى الأفق البعيد. ولا ينكر أن هذه البادية تنبعث فيها الحياة في الوقت الحاضر بوجود خيام الأعراب ومنازلهم ، وقطعان الأغنام والماشية ، وجماعات الإبل ، وحركة الذهاب والإياب لكثير من الخيالة والراجلين. ولكن حتى مظهر الحياة الوقتي هذا والضجيج الحاصل بنتيجة ذلك يعزى إلى الضغط الخاص الذي تفرضه الظروف الخارجية على المدينة.
__________________
(١) قد يفهم من هذا ان قصر داود ربما كان في موقع القشلة التي تضم وزارتي المالية والعدلية في الوقت الحاضر.
(٢) جاء في النص ٤٣٢ من الجزء الرابع من رحلة أوليا جلبي الذي زار بغداد في ١٦٥٦ م أن جانب الكرخ كان فيه في تلك السنة حوالي ألفي بستان وحديقة نخيل معمورة. نقلا عن كتاب النخل لعباس العزاوي.