[عناية أهل القاهرة بالمنطق]
ومن الأمر المنكر عليهم ، والنّكر المألوف لديهم ، تدارسهم لعلم الفضول ، وتشاغلهم بالمعقول عن المنقول ، في إكبابهم على علم المنطق ، واعتقادهم أنّ من لا يحسنه ، لا يحسن أن ينطق ، فليت شعري هل قرأه الشّافعيّ ومالك ، أو هو أضاء لأبي حنيفة (١) المسالك. وهل عاركه أحمد بن حنبل (٢) ، أو كان الثّوريّ (٣) على تعلّمه قد أقبل ، وهل استعان به إياس (٤) في ذكائه ، أو بلغ به عمرو (٥) ما بلغ من دهائه. أو تمرّس به قسّ وسحبان (٦) ، ولولاه ما أفصح أحد منهما (٧) ولا أبان. أترى عقول القوم كليلة. إذ لم تشحذ على مسنّه ، أترى فطنهم عليلة لمّا لم تكرع (٨) في أجنه (٩) عجبا كيف رويت قرائحهم ولم تمطر بعارض دجنه (١٠) ، كلّا هي أشرف من أن تقيّد في سجنه. وأشفّ من أن يستحوذ (١١) عليها طارق جنّه. تالله لقد أغرق القوم فيما لا يعنيهم ، وأظهروا
__________________
(١) النعمان بن ثابت التّميميّ بالولاء فقيه ، صاحب المذهب الحنفي توفي سنة ١٥٠ ه.
(٢) أحمد بن حنبل : إمام المذهب الحنبلي ، توفي سنة ٢٤١ ه.
(٣) هو سفيان بن سعيد بن مسروق : مفسّر محدّث ، كان عالم هذه الأمة. وعابدها وزاهدها ولد ونشأ بالكوفة وتنقّل بين المدن إلى أن توفي بالبصرة سنة ١٦١ ه. له تفسير القرآن الكريم ، ترجمته في سير أعلام النبلاء : ٧ / ٢٢٩ ، ومصادرها ثمة.
(٤) هو إياس بن معاوية : قاضي البصرة ضرب به المثل في الذكاء والفطنة توفي سنة ١٢٢ ه ترجمته في وفيات الأعيان ١ / ٢٤٧ ـ ثمار القلوب ٧٢.
(٥) عمرو بن العاص : أحد عظماء العرب ودهاتهم فاتح مصر توفي سنة ٤٣ ه. ترجمته في الإصابة ٣ / ٢ ـ الاستيعاب ٢ / ٥٠٢.
(٦) قس بن ساعدة الإيادي وسحبان وائل فصيحان من فصحاء العرب يضرب بهم المثل في البلاغة.
(٧) في ط : أحدهما.
(٨) كرع في الماء : تناوله بفيه من موضعه.
(٩) أجن الماء : تغيّر لونه وطعمه ورائحته.
(١٠) ـ العارض : ما اعترض في الأفق فسدّه من سحاب وغيره. الدّجن : ظلمة الغيم في اليوم المطير.
(١١) ـ يستحوذ : يستولي ويغلب.