الاستحسان ، وقد (١) كنت تجهزّت للمقام بها حتّى أشفي غليلا ، واتصفحّها بالتّأمّل جملة وتفصيلا ، فأزعجت الأقدار المانعة ، وزحزحت عن توطّنها الأحداث الواقعة ، فلم يمكن من وصفها إلّا ما اختلس الطّرف منتهبا ، وما اختطف اللّحظ الّذي غادر [٩١ / ب] القلب ملتهبا. وعلى ما كان من حال ، فلا يسع الإهمال والإغفال ، فليكن اقتصار (٢) إن لم يكن احتفال ، وقد قيل في المثل الّذي غبرت به الأعصار «ألجحش لمّا بذّك الأعيار» (٣). وها أنا أصف على قدر الإمكان ، فأقول والله المستعان : إن مكّة ـ شرفّها الله ـ من عظيم آيات الله (٤) في الأرض (٥) الدّالة على عظيم قدرته ، فإنّها بلد يسبي عقول الخلق ، ويستولي على قلوبهم ويتملّك رقّها من غير سبب ظاهر ، فالنّفوس إليه نزّاعة من كلّ أرض ، ولا يدخله أحد إلّا أخذ بمجامع قلبه مع عدم الدّواعي إلى ذلك ، ولا يفارقه إلّا وله إليه حنين ، ولو أقام به على الضّنك سنين ، لا يملّ سكناه ، ولا تضيق النّفس بلزوم مغناه. على أنه بواد كما قال الله عزوجل : (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)(٦) وأرضه (٧) جدبة كلّها حجر ، لا ماء ولا شجر ، وفي أصحابها بعض جفاء وقلّة ارتباط للشّرع. وهم في الغالب يؤذون الحجّاج
__________________
(١) ليست في ت.
(٢) في ط : اقتصاد.
(٣) في ت : لما فاتك ، وهو في أمثال أبي عبيد ٢٣ ، والمستقصى ١ / ٣٠٩ وجمهرة الأمثال ١ / ٣٠٥ والميداني ١ / ١٦٥. واللسان : جحش. ويضرب هذا المثل في قناعة الرجل ببعض حاجته دون بعض ، ونصب الجحش بفعل مضمر أي : اطلب الجحش.
(٤) ليست في ت.
(٥) ليست في ت.
(٦) سورة إبراهيم من الآية ٣٧.
(٧) في ط : أرضها.