ويحيفون (١) على المجاورين بها ، وقلّما ترى منهم من يتبرّم بسكناها على ما خيلت (٢) ، ولا من يسرّ بالانفصال عنها. وما فارقها أحد إلّا وفي نيّته الرّجوع إليها ، وهذا أمر أطبق عليه السّالف ممّن رآها والخالف ، واتّفق عليه المؤالف ممّن شاهدها والمخالف. لا يخلو فكر من تصوّرها ، ولا خاطر من توهّمها ، فهي نصب الأعين وحشو القلوب ، حكمة من الله وتصديقا لدعوة خليل الله (٣). يحضرها الشّوق إليها وهي غائبة ، ويدنيها وهي نائية. ويهون ما يتكلّف إليها من المشاقّ ، وما يعانى إليها من العناء ، فكم من ضعيف يرى في الطّريق إليها الموت عيانا ، ويبصر فيها الحين مشاهدة ، ويلقى فيها الرّدى مكافحة ، يطوي اللّيالي والأيّام وتطويه ، وتتقاذف به الفلوات والبيد ، يسقط في كلّ مرحلة جزء من قواه ، وينهدّ في كلّ منهلة جانب من جثّته. يقدم على الرّدى وهو يشاهده ويترامى إلى الفناء [٩٢ / آ] وهو يعانيه ببدن عرقه (٤) الجهد وأنضاه النّصب ، وأذواه (٥) سموم (٦) الهواجر وصرّ (٧) البكر ، يباشره الأذى (٨) من غير حائل ، وينافحه من غير جنّة (٩) ، رجله مطّيته ، وأخمصه حذاؤه ، وبشرته دثاره. لا زاد إلّا ما ترشح به الأكفّ ، ولا ماء إلّا ما
__________________
(١) الحيف : الجور والظلم.
(٢) في ت : جبلت.
(٣) يشير إلى دعاء ابراهيم عليهالسلام إذ قال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) سورة ابراهيم ٣٧.
(٤) عرقه : أنحله. وأكل ما عليه من اللّحم.
(٥) في ت : أرداه.
(٦) السّموم : الريح الحارة.
(٧) الصّرّ : شدة البرد.
(٨) في ت : الردى.
(٩) الجنّة : الوقاية والسترة.