يتبّرض (١) في المناهل. فلا يصل إليها إلّا وهو نضو (٢) دنف. قد سامه ليبتاعه التّلف. فما هو إلّا أن يردّه امتداد الأجل إلى أرضه ، ويرميه إلى مسقط رأسه ، حتّى تراه مستعّدا لمثلها ، مشيح (٣) العزم في الإقدام ثانية عليها. لم يثن عزمه ما كابده من البرحاء (٤) ، ولا كسر من حدّه ما شاهده من فرط العناء ، فيبتدئها (٥) جديدة ، ويفرّ عنها جذعة (٦) ، ويستقبلها مستأنفة ، كأنّه لم يذق لها مرارة ، ولا رأى من دلائل نصبها أمارة ، وهل هذا إلّا صنع إلهي ، وأمر ربّانيّ ، ودلالة (٧) لا تشوبها شبهة ، ولا تمرّ بها مرية ، تقوّي بصيرة المستبصر ، وتسدّد فكرة المتفكّر ؛ هذا وكم من آية لها تبهر العقول ، ودلالة تشاهد على وفق المنقول.
[حدود مكّة]
وهي ـ شرّفها الله ـ بلدة كبيرة متّصلة البنيان في بطن واد بين جبال محيطة بها ، لا يراها القاصد إليها حتّى يشرف عليها. والجبال المحيطة بها ليست شامخة ، وبنيانها آخذ في الاستطالة مع الوادي ، ولا سور لها ، إلّا أنّها حيزت من أعلى الوادي وأسفله بحائطين من صخور لا ملاط لها ، قطعا (٨) الوادي عرضا حتّى وصلا بين الجبلين ، وهما على فسحة من البلد. وأعلى
__________________
(١) هو يتبرّض الماء : كلما اجتمع منه شىء غرفه.
(٢) النضو الدّنف : المريض الهزيل.
(٣) أشاح الرّجل : جدّ في الأمر.
(٤) البرحاء : الشدّة والمشقّة.
(٥) في ت : فيبتدعها.
(٦) في ط : جزعة ، وهو تحريف ؛ والجذعة : الشابّة الفتيّة.
(٧) في ت وط : ودلائل.
(٨) في ت : قطعها.