الغمّاز الخرزجي (١) ، وصل الله صيانته ، وأدام على الخيرات إعانته ؛ فلقيت منه عالما يأخذ بالأسماع والأبصار ، وفاضلا خلت من مثله القرى والأمصار ، وغرّة أجلى من ضوء الصّباح ، مع سكون الطّائر وخفض الجناح ؛ يدأب على الإسماع دؤوب من عدّ العلم أرفع صناعة ، ورأى الاشتغال به أنفع بضاعة ، لا يشغله عنه الإبقاء على أعضائه الواهية ، ولا يصدّه عنه ما تتحمّل (٢) فيه من المشقّة نفسه السّامية ، ولم يؤثّر في قوّة اجتهاده ضعف قواه ، ولا هوى به إلى استيطاء الرّاحة هواه ، بل يستعذب في خدمة العلم ما يلاقي ، ويعدّه عدّة ليوم التّلاقي ؛ ولقد منحني الله من قبوله وإقباله ، ما لم يتيسّر لي إلّا بمنّ الله وأفضاله. ولمّا اجتمعت به وجدته مواظبا للإسماع بداره غدوة وعشيّة ، فكلّمته في قراءة جامع البخاريّ عليه ، وأتيته بأصل منه ، استشرته في شرائه ، فاستغرب حالي في ذلك ؛ وقال لي : إن أردت أن تقرأ في أصلي ، ويتوفّر عليك ما تشتري به فافعل ؛ فقلت له (٣) : أريد أن أقرأ هذا الكتاب في أصل يكون لي ، أرجع إليه ؛ فأعجبه ذلك منيّ ، وأنعم بقراءته عليه ، وعطّل لأجلي أكثر الدّول ، وكان يداري أصحابها (٤) إذا رأى منهم قلقا ، فإذا أكثروا (٥) عليه ، وعظهم في رفق وقال لهم : إنّه ضيف علينا فاصبروا له حتّى يتمّ الكتاب ، فترجعوا إلى دولكم ، وأنتم مقيمون ، فكان يجلس لي من أوّل النّهار إلى قريب الظّهر ، ومن العصر إلى الغروب ، وربّما قام مرارا إلى تجديد الطّهارة ثم يرجع ويتكلّف ذلك على كبر سنّه وضعف قواه ، فقرأت عليه أكثر [١٢٩ / آ] الكتاب المذكور قراءة
__________________
(١) توفي ابن الغماز بتونس يوم عاشوراء سنة ٦٩٣ ه. انظر وفيات ابن قنفذ ٣٣٤.
(٢) في ت : تتحمله.
(٣) له : ليست في ت.
(٤) في ت وط : أصحابه.
(٥) في ت : كثروا.