قسنطينة (١) ، جبر الله صدعها ، وكفاها من نوائب الدّهر ما واصل قرعها ؛ وهي مدينة عجيبة حصينة ، غير أنّها لخطوب الدّهر مستكينة ؛ قد ذبلت ببوارح الغير ، وفوادح الضّرر رياضها ، ونضبت بسهائم الآفات ، وعظائم الملمّات حياضها ، حتّى صارت كالحسناء لبست أسمالا ، والكريم فقد مالا ، والبطل أثخنته الجراحة حتّى لم يطق احتمالا ؛ فهي تري الحوادث لمحا باصرا (٢) ، وتنادي بلسان الحال : «ذلّ لو أجد ناصرا» (٣) [الخفيف]
من رأيت المنون خلّدن أم من |
|
ذا لديه من أن يضام خفير (٤) |
وبها للأوائل آثار عجيبة ، ومبان متقنة الوضع غريبة ، وأكثرها من حجر منحوت ، يعجز الوصف إتقانه ويفوت ؛ وقد دار بها واد شديد الوعر ، بعيد القعر ، أحاط بها كما يحيط السّوار بالمعصم ، ومنعها (٥) كما يمنع النّيق (٦) الأعصم (٧) ؛ ولكن سهام الدّهر لا تقيها الجنن (٨) ، ولا تمنع منها القنن (٩) ؛ وريب المنون وصرف الزّمن ، قد أعيت الحيلة فيها من ومن.
__________________
(١) قسنطينة ، مدينة كبيرة من مشاهير بلاد إفريقية ، بناها الرومان على جبل شاهق. انظر وصف إفريقية : ٢ / ٥٥ ـ ٥٦.
(٢) إشارة إلى المثل : لأرينك لمحا باصرا. وهو في الميداني ٢ / ١٧٧.
(٣) المثل في : أمثال الضبي : ١١٨ ، وأمثال أبي عبيد ٢٦٨ ، والمستقصى : ٢ / ٨٦ ، والميداني : ١ / ٢٨٠.
(٤) البيت لعديّ بن زيد في ديوانه : ٨٧ ، وروايته فيه : من ذا عليه.
(٥) في ت وط : ومنعاها.
(٦) في الأصل وط : النّوق ، والنيق أرفع موضع بالجبل.
(٧) الأعصم : الوعل.
(٨) الجنن : جمع جنّة : الدّرع.
(٩) القنن : أعالي الجبال.