قال يا رب بل متعت. وقرأ الأعمش : متعنا ، بنون العظمة ، وهي تعضد قراءة الجمهور.
(حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) ، وهو القرآن ؛ (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، هو محمد صلىاللهعليهوسلم. وقال الزمخشري : فإن قلت : فما وجه من قرأ : بل متعت ، بفتح التاء؟ قلت : كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، فقال : بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق ، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم ، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم ، وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان ، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا ، فمثاله : أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ، ثم يقبل على نفسه فيقول : أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك ، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله. فإن قلت : قد جعل مجيء الحق والرسول غاية للتمتيع ، ثم أردفه قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ) ، فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت : المراد بالتمتيع : ما هو سبب له ، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته. فقال عز وعلا : بل اشتغلوا عن التوحيد (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) ، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه.
ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال : (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) ، جاءوا بما هو شرّ من غفلتهم التي كانوا عليها ، وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ، ومكابرة الرسول ومعاداته ، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه ، والإصرار على أفعال الكفرة ، والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد صلىاللهعليهوسلم من أهل زمانه بقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. انتهى ، وهو حسن لكن فيه إسهاب. والضمير في : وقالوا ، لقريش ، كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله من البشر رسولا ، فاستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى ، وغيرهم من الرسل صلى الله عليهم. فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ، ناقضوا فيما يخص محمدا صلىاللهعليهوسلم فقالوا : لم كان محمدا ، ولم يكن القرآن ينزل على رجل من القريتين عظيم؟ أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال. وقرىء : على رجل ، بسكون الجيم. من القريتين : أي من إحدى القريتين. وقيل : من رجل القريتين ، وهما مكة والطائف. قال ابن عباس : والذي من مكة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، ومن الطائف : حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. وقال مجاهد : عتبة بن ربيعة ، وكنانة بن عبد ياليل. وقال قتادة : الوليد بن المغيرة ، وعروة بن