نوع تفسير الباطنية وغلاة المتصوفة الذين يفسرون كتاب الله على شيء لا يدل عليه اللفظ بجهة من جهات الدلالة ، يحرفون الكلم عن مواضعة. ويدل على أنه أريد ظاهر الفلك قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) : يعني الإبل والخيل والبغال والحمير ، والمماثلة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط ، هذا إذا كان الفلك جنسا. وأما إن أريد به سفينة نوح ، فالمماثلة تكون في كونها سفنا مثلها ، وهي الموجودة في بني آدم. ويبعد قول من قال : الذرية في الفلك قوم نوح في سفينته ، والمثل الأجل : وما يركب ، لأنه يدفعه قوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ). وقرأ نافع ، وابن عامر ، والأعمش ، وزيد بن عليّ ، وأبان بن عثمان : ذرياتهم بالجمع ؛ وكسر زيد وأبان الذال ؛ وباقي السبعة ، وطلحة ، وعيسى : بالإفراد. وقال الزمخشري : ذريتهم : أولادهم ومن يهمهم حمله. وقيل : اسم الذرية يقع على النساء ، لأنهن مزارعها. وفي الحديث : «أنه نهى عن قتل الذراري» ، يعني النساء.
(مِنْ مِثْلِهِ) : من مثل الفلك ، (ما يَرْكَبُونَ) : من الإبل ، وهي سفائن البر. وقيل : (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : سفينة نوح. ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها : أنه حمل فيها آباؤهم الأقدمون ، وفي أصلابهم هم وذرياتهم. وإنما ذكر ذرياتهم دونهم ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. و (مِنْ مِثْلِهِ) : من مثل ذلك الفلك ، (ما يَرْكَبُونَ) : من السفن. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي : إنما خص الذريات بالذكر ، لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم ، أي لم يكن الحمل حملا لهم ، وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين. وقال أيضا : الضمير في وآية لهم عائد على العباد في قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ثم قال بعد (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) ، (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) ، (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) : ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون الضمير في الموضعين لمعنيين ، فهو كقوله : (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) ، إنما يريد : لا يقتل بعضكم بعضا ، فكذلك هذا. (وَآيَةٌ لَهُمْ) : أي آية كل بعض منهم ، (أَنَّا حَمَلْنا) ذرية كل بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم. انتهى. والظاهر في قوله : (وَخَلَقْنا) أنه أريد الإنشاء والاختراع ، فالمراد الإبل وما يركب ، وتكون من للبيان ، وإن كان ما يصنعه الإنسان قد ينسب إلى الله خلقا ، لكن الأكثر ما ذكرنا. وإذا أريد به السفن ، تكون من للتبعيض ، ولهم الظاهر عوده على ما عاد عليه (وَآيَةٌ لَهُمْ) ، لأنه المحدث عنهم ، وجوز أن يعود على الذرية ؛ والظاهر أن الضمير في مثله عائد على
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٢٩.