أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك؟ قلت : ما جعل افتتانهم بالعدّة سببا لذلك ، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلت سببا ، وذلك أن المراد بقوله : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر ؛ فوضع (فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) موضع (تِسْعَةَ عَشَرَ) ، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحدا من عقد العشرين ، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين. انتهى ، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب الله تعالى ، إذ زعم أن معنى (إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : إلا تسعة عشر ، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء ؛ وكفى ردّا عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى. وقيل : (لِيَسْتَيْقِنَ) متعلق بفعل مضمر ، أي فعلنا ذلك ليستيقن. (وَلا يَرْتابَ) : توكيد لقوله (لِيَسْتَيْقِنَ) ، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام.
و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما المرض في الآية : الاضطراب وضعف الإيمان. وقيل : هو إخبار بالغيب ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً). لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا ، فاستفهم بعضهم بعضا عن ذلك استبعادا أن يكون هذا من عند الله ، وسموه مثلا استعارة من المثل المضروب استغرابا منهم لهذا العدد ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند الله ، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة.
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ ، كَلَّا وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ، كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ، فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ، كَلَّا بَلْ