اللحظة احتراما واستلطافا لم تزدهما التجربة الطويلة إلّا تمكنا. وكانت إحدى قبائل الجوار (١) باتجاه الجنوب ، والتي آسف لنسيان اسمها ، تدّعي بحق أنها تتكلم العربية الفصحى في الجزيرة العربية. وبعد أن استبدلت آسفا كل الأسف بالهجان الرائع الذي كنت أركبه بغلا ، وبالرحل الحريري المزين بالفضة سرجا من الجلد كانت له كثير من صفات البردعة. ركبت الطريق متأخرا. وكانت تضاريس الأرض قد تغيرت تماما : إذ حلت محل الرمل أرض صلبة ووعهرة ، كان يصدر عن حوافر البغال عند وقوعها عليها صوت يشبه صوت احتكاك المعادن. وبعد ميل على / ٢٢٤ / الأكثر قطعناه في أرض سهلية ، دخلنا في مضيق واسع في بدايته ، ولكنه يضيق بعد قليل منكمشا ، ويرتفع تدريجيا. وتمتد على جانبيه دكك كبيرة من النضيد الرخامي بطبقات أفقية. كان جبل كرا الذي كنا حينئذ نتسلق أولى منحدراته ينتصب أمامنا ، وكأنه يتحدانا ، كانت جوانبه متصدعة متشققة ، وقممه جرداء ومنحوتة على شكل قباب ورؤوس مسننة. إن الجبال التي لا تزال على حالة خلقها الأولى أكثر توحشا ووعورة من جبال العصور التالية. إنها هياكل من بداية العالم ، كانت ، كما نرى ، عرضة للهزات ، وجعلتها الاختلاجات العميقة متعرجة ، وهدمتها الاندفاعات الهائلة.
تلك هي طبيعة جبل كرا ، كتلة جرانيتية انبجست في بداية الخلق ، مثل جبل سيناء ، من أحشاء الكون. تغشاه الشمس كاملا عند غروبها ، وتضفي فجأة على كل النتوءات درجة إشراف الألوان الذهبية والسوداء مما يمنحها انعكاسا مدهشا. كانت تلك اللحظة قصيرة ، ولكنها مهيبة. كان الغسق قد بدأ يخيم على الأجزاء السفلية من الجبل عند ما تلفتت فرأيت بعيدا ورائي جبلا آخر منفردا ، ضخما يغشاه أيضا حتى قواعده لون زهري فاقع. يسمى ذلك الجبل كبكب ، وهو واحد من أعلى جبال الحجاز. أرخى الليل سدوله مبكرا على المنظر / ٢٢٥ / الرائع ، وأدركنا في أكثر مناطق المضيق الذي نسلكه وعورة ،
__________________
(١) انظر : رحلات بوركهارت ... ، موثق سابقا ، ص ٦٩.