لأنّ حكم العقل مع قطع النّظر عن الشّرع لا يجرى فى جميعها ، حيث قالوا إنّ حكم العقل بالحسن والقبح قد يكون ضروريّا من غير ملاحظة الشّرع كحسن الصّدق الضّار وقبح الكذب النّافع. وقد يكون موقوفا على ملاحظة الشّرع بمعنى أنّه لما ورد الشّرع بحسن شيء أو قبحه علم انّ هناك جهة عقليّة للحسن أو القبح كحسن صوم آخر رمضان وقبح صوم أوّل شوّال ، فحكم العقل بالحسن والقبح فى هذا القسم موقوف على كشف الشّرع عنهما ، وفى القسمين الأوّلين مؤيّد به. وبالجملة المدّعى أنّ الحسن والقبح عقليان بمعنى الإيجاب الكلّى والدّليل إنّما ينتهض على أنّهما عقليّان فى الجملة بمعنى الإيجاب الجزئىّ فلا يتمّ التّقريب. اللهم إلّا أن يقال اذا بطل كون جميع افراد الحسن والقبح شرعيّة ثبت كون جميعها عقليّة بناء على أنّه لا قائل بالفصل ، وفيه ما فيه مع أنّه ينافى ما صرّحوا به من أنّ هذا الدّليل من الأدلّة التحقيقيّة لهم على هذا المطلب.
وقد أجيب عن ذلك الدّليل بأنّ العقل إنّما يحكم بالحسن والقبح فى الصّورة المذكورة بمعنى ملائمة الغرض ومنافرته أو الكون صفة كمال والكون صفة نقص لا بالمعنى المتنازع فيه.
أقول العقل كما يحكم بحسن الصّدق النّافع وقبح الكذب الضّارّ مثلا بالمعنيين الأوّلين من غير ملاحظة الشّرع ، كذلك يحكم بهما بالمعنى المتنازع فيه من غير ملاحظته بل مع إنكاره أيضا ، ومنع ذلك مكابرة غير مسموعة كما لا يخفى على من له أدنى إنصاف. وثانيهما ما يدلّ عليه قوله : ولأنّهما أى الحسن والقبح وهو عطف على ما يفهم من فحوى الكلام كأنّه قال الحسن والقبح عقليّان لأنّ العقل قاض بالضّرورة ... ولأنّهما وقال : ولو انتفيا عقلا لكان أخصر وأظهر أى لو انتفى الحسن والقبح فى العقل أى كونهما عقليّين لانتفيا سمعا أى فى السّمع أى انتفى كونهما شرعيّين أيضا واللّازم باطل فالملزوم مثله. أمّا الملازمة فلأنّ الشّرع إنّما يدلّ على الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه باعتبار دلالته على الاخبار عنهما صريحا أو ضمنا فى ضمن الأمر والنّهى وقبح الكذب وتنزّه الشّارع عن القبيح ، ولو لم يكن الحسن والقبح عقليّين لم تثبت المقدّمة الثّانية لانتفاء