ثبوت قبح الكذب حينئذ أى حين اذ لم يكن الحسن والقبح عقليّين حال كون الكذب صادرا من الشّارع ، لا عقلا إذا المفروض خلافه ، ولا شرعا لأنّه لو كان ثبوت قبح الكذب بالشّرع الّذي يتوقّف دلالته على الحسن والقبح على ثبوت قبح الكذب لزم الدّور قطعا. وأمّا بطلان اللّازم فلاستلزامه انتفاء الحسن والقبح مطلقا وهو باطل بديهة واتّفاقا.
وأجيب عنه بأنّا لا نجعل الشّرع دليل الحسن والقبح ليرد ما ذكرتم ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الأمر والمدح والقبح عبارة عن كون الفعل متعلّق النّهى والذّمّ أقول : يمكن دفعه بأنّ الحسن والقبح لو كانا شرعيّين بالمعنى المتنازع فيه لامتنع إثباتهما والعلم بهما ، لأنّ إثباتهما على هذا التّقدير إنّما يكون بالشّرع وقد عرفت ان إثباتهما بالشّرع يستلزم الدّور فيمتنع إثباتهما حينئذ مع اتّفاق المتخاصمين على إمكان اثباتهما ، فعلى هذا يبطل كونهما شرعيين ، والمفروض انّهما ليسا عقليين فيبطلان رأسا ، هذا خلف ، على أنّ قوله : بل نجعل الحسن عبارة ... لا يوافق تحرير محلّ النّزاع كما لا يخفى. نعم هذا الدّليل أيضا إنّما يدل على رفع الإيجاب الكلّى لا على سلب الكلّى الّذي هو المطلوب ، إلّا أن ينتهى الكلام على انّه لا قائل بالفصل فيكون من الأدلّة الإلزاميّة لهم على هذا المطلب من وجهين ، مع أنّ فيه ما أشرنا إليه فى صفة الصّدق من الصّفات الثّبوتيّة فليتأمّل.
المبحث الثّاني من المباحث الستة فى انّا فاعلون بالاختيار
اعلم انّهم اختلفوا فى أفعال العباد اختلافا عظيما ، فذهب جمهور المعتزلة إلى أنّ المؤثّر فيها قدرة العباد فقط على سبيل الاختيار ، والفلاسفة وامام الحرمين إلى أنّ المؤثّر فيها قدرتهم فقط لكن على سبيل الإيجاب وامتناع التّخلّف. والجبريّة إلى أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط من غير قدرة لهم اصلا ، واكثر الأشاعرة إلى أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط مع مقارنة قدرتهم من غير تأثير لها والاستاد إلى تأثير مجموع القدرتين فى أصل الفعل والقاضى إلى تأثير قدرة الله تعالى فى أصل الفعل وقدرة العبد فى وصفه مثل كونه طاعة ومعصية.