فهو أنّه لمّا كانت الضرورة داعية فى حفظ النّوع الإنسانى إلى الاجتماع الّذي يحصل معه مقاومة كلّ واحد لصاحبه فيما يحتاج إليه ، استلزم ذلك الاجتماع تجاذبا وتنازعا يحصلان من محبّة كلّ واحد لنفسه وإرادة المنفعة لها دون غيرها بحيث يفضى ذلك إلى فساد النّوع واضمحلاله ، فاقتضت الحكمة وجود عدل يفرض شرعا يجرى بين النّوع بحيث ينقاد كلّ واحد الى أمره وينتهى عند زجره. ثمّ لو فرض ذلك الشّرع إليهم لحصل ما كان أوّلا ، اذ لكلّ واحد رأى يقتضيه عقله وميل يوجبه طبعه ، فلا بدّ حينئذ من شارع متميّز بآيات ودلالات تدلّ على صدقه كى يشرع ذلك الشّرع مبلغا له عن ربّه يعد فيه المطيع ، ويتوعّد العاصى ليكون ذلك ادعى إلى انقيادهم لأمره ونهيه. وأمّا فى أحول معادهم فهو انّه لما كانت السّعادة الأخرويّة لا تحصل الّا بكمال النّفس بالمعارف الحقّة والأعمال الصّالحة ، وكان التّعلّق بالأمور الدّنيويّة وانغمار العقل فى الملابس الدّنيّة البدنيّة مانعا من ادراك ذلك على الوجه الأتمّ والنهج الأصوب ، أو يحصل إدراكه لكن مع مخالجة الشّكّ ومعارضة الوهم ، فلا بدّ حينئذ من وجود شخص لم يحصل له التعلّق المانع بحيث يقرّر لهم الدلائل ويوضحها لهم ويزيل الشّبهات ويدفعها ويعضد ما اهتدت إليه عقولهم ، ويبيّن لهم ما لم يهتدوا إليه ، ويذكرهم خالقهم ومعبودهم ، ويقرّر لهم العبادات والأعمال الصّالحة ما هى؟ وكيف هى على وجه يوجب لهم الزّلفى عند ربّهم ، ويكرّرها عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير كى لا يستوى عليهم السّهو والنّسيان اللّذان هما كالطبيعة الثانية للإنسان ، وذلك الشّخص المفتقر إليه فى احوال المعاش والمعاد هو النّبيّ. والنبىّ واجب فى الحكمة وهو المطلوب.
قال : وفيه مباحث : الأوّل ، فى نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله (ص) ، لأنّه ظهر المعجزة على يده كالقرآن ، وانشقاق القمر ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير من الطّعام القليل ، وتسبيح الحصى فى كفّه وهى أكثر