فأوكل إلى هؤلاء التسعة بتأليف مقدمة دفاعنا ولا أعلم سبب هذا الاختيار أكان إكراما لنا أم أنهم اعتبرونا أكثر مهارة من غيرنا ، أم لعلهم أرادوا أن نجابه الأخطار قبل غيرنا. وكان معنا جنود إنكشاريون (١) وعدد ملحوظ من الجنود الأتراك فانتظمنا جميعا نحن في المقدمة ويتبعنا رماة الرماح وهم كثيرون ثم المسلحون بالسيوف. وعلى هذا الترتيب تجولنا حول القافلة على عادة أهل البلاد ثم توجهنا إلى الجانب الآخر حيث كان يخشى هجوم العدو منه ، فاتخذنا موقف الدفاع وكأننا في حالة معركة ـ ولعل ذلك لأجل تمرين المدافعين على مواقعهم ـ وأخذنا نطلق العيارات بجلبة عظيمة ، وكان لهذه المظاهر وقع حسن في نفسي بالرغم من أني لم أفهم كل ما كانوا يتبادلون من أقوال.
في الأيام التالية ، بل وفي كل أيام الرحلة لم نهتم بقطع المسافات المحددة إذ لم يكن باستطاعتنا فعل ذلك بل كان جل اهتمامنا الوصول إلى أماكن نجد فيها ماء لأنها كانت نادرة جدا في البادية. وقد نجد آبارا بين مرحلة وأخرى حفرت في الأزمنة الغابرة ثم طمرت ، وقد يعمد الأعراب أنفسهم إلى طمرها من باب الدفاع عن النفس كي يبعدوا الأغراب عنهم ويمنعوا بذلك مهاجمتهم وإخضاعهم بالقوة. لقد لاحظ ذلك «ديودوروس سيكولوس» (٢) (أي الصقلي) فقال ان موطن العرب صحراوي ، وهو بطبيعته يفتقر إلى الماء ، ولهذا السبب لم يتسلط على العرب سادة غرباء ، فلا الفرس ولا المقدونيون ولا الأتراك حديثا ولا الروم قديما ، ولا أية أمة أخرى مهما قويت شوكتها لم يتمكنوا من إخضاع العرب. بل كانوا ينقادون إلى أمراء من جنسهم كما ذكر ذلك «سترابون» (٣) وهؤلاء الأمراء بدورهم كانوا ينتمون قديما
__________________
(١) لفظة تركية الأصل تعني «الجند الجديد» وهم من المشاة.
(٢) مؤرخ يوناني له كتاب «المكتبة التاريخية» بحث فيه عن التاريخ العام من أقدم العصور حتى سنى ٦٠ ق. م.
(٣) سترابون أو سترابو (٥٨ ق. م ـ ٢٥ ب. م) : جغرافي يوناني وضع كتابا مهمّا في «الجغرافية» بسبعة عشرة جزءا وصف فيه الأقاليم المعروفة في ذلك العهد ومنها بلاد بابل وآشور.