المدينة بيد القوط (٦٢) وأغراهم باحتلالها أن نبلاء الرومان الذين كانوا يستوطنون أفريقيا التجأوا إليها وجمعوا فيها ثرواتهم. وظلت حينا من الدهر مهجورة ، ثم عمرها الناس ، ولكنها ظلت قرية.
ويمر بين قلعة تقع فيها (٦٣) وبين حيين من أحيائها جدول ذو ماء صالح للشرب يجري في قناة حجارتها ناصعة البياض حتى لكأنها من الفضة. ويحرك هذا الجدول طواحين قمح ، وينبع من تل واقع على مسافة ميل ونصف من المدينة تقريبا (٦٤) ، والأربص مدينة غير مطمئنة كثيرا لأن سكانها مرهقون بالضرائب من ملك تونس ، وينقسمون الى طائفتين : طائفة الحاكة ؛ وطائفة الفلاحين ، ولو عرف ملوك تونس خصوبة هذه المنطقة ، وما يمكن أن تنتجه سواء من الحب أو من الماشية ، ووفرة مائها ، ونقاوة هوائها ، لهجروا تونس وسكنوها. ويعرف العرب كل ذلك ، ولهذا يأتون كل سنة إلى أرياف الأربص حيث يملئون أكياسهم من القمح دون أن يدفعوا شيئا ثم يعودون للصحراء.
مدينة باجة
باجة مدينة قديمة بناها الرومان على مسافة خمسة وعشرين ميلا تقريبا (٦٥) من البحر المتوسط وعلى مسافة ثمانين ميلا ، أو أكثر قليلا ، من تونس (٦٦). وقد بناها الرومان فوق موقع مدينة أخرى ، ولهذا دعيت فكّشيا : وبعدئذ أبدلت الفاء باء ، وتحولت الكاف المشددة إلى ج فأصبحت باجه (٦٧). ولكنني أظن أن الاسم الأول الذي أعطاها إياه الرومان قد حرف بسبب كثرة تقلب الأمراء على المدينة واختلاف لهجاتهم وبسبب تبدلات الديانة ، لأننا نلاحظ أن هذه الكلمة ليس عربية. وقد احتفظت باجه
__________________
(٦٢) المقصود الفندال.
(٦٣) وربما كانت خرائب حصن روماني.
(٦٤) لقد أصبحت الجداول التي كانت تنبع من الكدية الغربية في الغرب ومن جبل الأربص من الشرق ، أصبحت جافة.
(٦٥) ٤٠ كم.
(٦٦) وهي لا تبعد في الواقع أكثر من ٦٥ ميلا أو ١٠٥ كم عن تونس.
(٦٧) كانت المدينة الرومانية تدعى فاجا ، وباجة هي التحريف العربي ، أما فكشيا أي العتيقة فهي كلمة إيطالية لم يعرفها اللاتين.