توثبها وانفعاليتها ، فهي صادقة ولا تقبل التنازل أبدا.
هكذا تقدم لنا المناقب القديمة أجمل الوجوه التي تترجم أقصى ما بلغ إليه الورع في إفريقية مثل عبد الرحمان بن زياد بن أنعم ، وابن فروخ ورباح بن يزيد ، وبهلول بن راشد. أما الأوّلان منهم فقد كانا عالمين قبل كل شيء. ولد عبد الرحمان حوالى ٧٦ ه وتوفي في ١٦١ ه. وعرف المشرق جيدا ، وأخذ منه أحاديث وروّج فيه أخرى. من المؤكّد أنه التقى بسفيان الثوري وكذلك بابن لهيعة. وكان سلوكه إزاء السلطة محكّا للأخلاقية الدينية في إفريقية مما جعله موضوع حشو وإسقاط ، غير أن يزيد بن حاتم عزله بسبب شجاعته في تصدّيه له. أما ابن فروخ فقد كان أكثر ابتعادا عن الدنيا وأكثر ميلا للعبارات المؤثرة في الوجدان الديني.
غير أن المجسّدين لتيار التصوّف الأوّلي كانا رباح بن يزيد والبهلول. وقد مثل هذا التزهّد ظاهرة مبتكرة بحقّ. ابتعد هذان الشخصان عن العلم ، ووجّها اهتمامهما إلى التطبيق العملي Praxis ، فهما ليسا فقيهين ولا محدّثين وإنما من رجال الله. لقد وقع الإلحاح على عدائهما للأفكار الجديدة والبدع ، غير أن هذا الأمر مثّل الجانب الأقل أهمية فيهما.
فهما يعرفان أولا كأهل صلاح بمعنى توخّي التمشي الأخلاقي المتوجّه إلى الخير وإلى الله في نفس الوقت. وهما طاهران وعادلان ومتعطشان للمطلق ، وفي نفس الوقت كانا رجلي فعل يتربّصان لمقاومة الشر. فزهدهما لم يكن تقشفا ولا تنسّكا كاملا ولكن تزهّدا.
لقد كانت حياة رباح وحدها مثالا واضحا لتعريف كمال الفقر والخشوع ، إذ ذكر أنه يهرب من الثروة مثلما يهرب آخرون من الفقر ، وأنه ومنذ ١٥ سنة أي منذ حظيه الله بفضله ورعايته لم يعد يخشى سوى نفسه ، فهو يحب مرضه عند ما يمرض وتوفي في سنّ ٣٨ سنة.
أمّا البهلول فهو أقلّ تأثيرا في إدراكنا لأنه أصبح شخصية مشغولة بسمعتها وتحيا حياتها كدور مسرحي ، وكذلك لم يكن على قدر عظيم من الأخلاقية الدينية.