وفي كلّ مرّة كان الحكم القائم يتغلّب عليها. من الممكن أن وجدت نزعة إلى الاستقلالية في الوحدات الصغيرة ، مثل ما سيحصل في الغرب المسيحي ومثل ما سيحصل زمن السلاجقة في الشّرق فيما بعد. لكن ما دام الحكم المركزي قادرا على إخمادها بالعنف المنظّم والقوّة المستديمة ، فهي تتكرّر لكي تغلب. ومتى ما ضعف الحكم فالإمارات المشتّتة تنبثق وتستفحل. هذه قاعدة عامّة لا تخصّ الغرب الإسلامي فقط ولا حتّى دار الإسلام ، بل هو التاريخ وعمله التّحتي إذ ذاك في تمخّض.
ولأسلوب الحكم وبنية الاقتصاد والمواصلات وشكل الحضارة في زمن ما قبل الحداثة علاقة وطيدة بذلك. إنّ الأشكال والهياكل السياسية تمرّ ولا تبقى طويلا ، لكنّ هذه الفترة المدروسة ، على الرّغم من صخب الأحداث أو بسبب ذلك ، وهي فترة تمتدّ على قرن ونصف من التولّد الصّعب الأليم ، أقحمت المغرب الإسلامي والأندلس في مصير جديد سيبقى أو ستبقى أسسه الثّابتة ، وهذه الأسس طويلة المدى والتأثير : وهي اللّغة والدّين والحضارة ، وكلّها ثوابت إذا رسّخت يستحيل تقريبا اقتلاعها.
لقد أطرد الإسبان بعد سبعة قرون العرب المسلمين من الأندلس تماما. وهو أمر طبيعي لأنّ الإسبان كانوا يتّكئون على مجال أوروبي متّسع جدا ، ولأنّ المسيحية البابوية كانت حادّة وشرسة. لكنّ المسلمين أيضا التجأوا إلى دار الإسلام القريبة وهي المغرب لكي يثروه بعطائهم.
وبقي المغرب متمحورا على ذاته موحّدا كمجال جغرافي ، كذاكرة لتاريخ مشترك ، كتنويعة من حضارة الإسلام الكبرى ، كانتماء ديني.
كل هذا انطلق من فترة ـ رحم كانت قاسية في الأوّل على المغلوبين ، أبرز فيها العرب الفاتحون مقدرة هائلة على التّعنّت في البقاء وعلى التّنظيم الصارم ، كما على الاختراق في الأعماق ، في الصحاري النائية والجبال الشامخة ، اختراق هذا العالم الممتدّ بأسلوب لم يعرف قطّ قبل ذلك ، لا من طرف القرطاجنين ولا من طرف الفندال ولا حتى من