الذي أنزل فى شأنه القرآن ، أى نزل الأمر من الله عزوجل ، بصيامه كتابا يتلى وقرآنا لا يدرس ولا يبلى.
كما يقال : «نزل القرآن بالصلاة» أى نزل جزء منه بفرضها و «نزل القرآن فى عائشة» رضى الله عنها ، وإنما نزلت منه آيات ببراءتها من الإفك. ومثل هذا الإطلاق موجود فى الأحاديث والآثار كثيرا.
ولنسلم أن معنى قوله : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أى ابتدئ فيه إنزاله ، فقد قيل ذلك وليس ببعيد فى المفهوم ولا مما تضيق عنه سعة الكلام ، ثم نجرى ذلك المجرى الآيتين الأخيرتين ، وهما : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ، و (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، وإن بعد ذلك فيهما لما ورد من الآثار المصححة لحكم عمومهما حسبما نذكره بعد ، فما بال الآية الأخرى التي هى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) تنتظم فى هذا النظام ، وقد أعقبها مفسرا بأن المعنى بذلك يوم بدر ، وهو الحق؟!.
وهل كان يوم بدر إلا فى السنة الثانية من الهجرة ، وبعد اثنتى عشرة سنة من البعث ونزول الوحى ، أو بعد خمس عشرة سنة ، على ما ورد من الخلاف فى مدة مكث رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكة بعد النبوة ، وما زال القرآن المكى والمدنى ينزل فى ماضى تلك السنين!.
فإن كان ابن إسحاق عنى ما ذكرناه عنه ونسبناه إليه فقد بينا وجه رده واستوفينا التنبيه عليه ، وإن كان عنى غير ذلك فقصر عنه تحرير عبارته أو سقط على الناقل من كلامه ما كان يفى لو بقى بإفهامه ، فالله تعالى أعلم. والرجل أولى منا بأن يصيب ويسلم ، إلا أنه لا ينكر أن يغلط هذا البشر.
ونعوذ بالله أن نقصد بهذا الاعتداء على ذى علم أو الغض من ذى حق ، فإن العلماء هم آباؤنا الأقدمون وهداتنا المتقدمون ، بأنوارهم نسرى فنبصر ونستبصر ، وإلى غاياتهم نجرى فطورا نصل وأطوارا نقصر ، فلهم دوننا قصب السبق ، ولهم علينا فى كل الأحوال أعظم الحق ، إذا أصابوا اعتمدنا ، وإذا أخطئوا استفدنا ، وإذا أفادوا استمددنا ، فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء ، ووفقنا لتوفية حقوق الأئمة والعلماء.
وبعد : فمن أحسن ما يتقلد فى تلك الآيات الثلاث التي صدر بها كلامه ، مما يحفظ حكم عمومها ويطابق ظاهر مفهومها ، ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أجمعين ، أن القرآن أنزل جملة واحدة فى شهر رمضان إلى سماء الدنيا ، فجعل فى بيت العزة ، ثم أنزل على النبيّ صلىاللهعليهوسلم شيئا فشيئا إلى حين وفاته.