وفي الكبير للطبراني ورجاله ثقات عن الشموس بنت النعمان قالت : نظرت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء ، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر ، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته ، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول : بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أكفك ، فيقول : لا ، خذ مثله ، حتى أسسه ، ويقول : إن جبريل عليهالسلام هو يؤم الكعبة ، قالت : فكان يقال : إنه أقوم مسجد قبلة.
قلت : قد صح أنه صلىاللهعليهوسلم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك ، وجاءت القبلة وهم في صلاة الصبح فأخبرهم ، وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة ؛ فيحتمل : أن جبريل عليهالسلام كان يؤم به البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين ، ولعلمه بما يؤول إليه الأمر من استقبال الكعبة ، أو أنه صلىاللهعليهوسلم كان مخيّرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة كما قاله الربيع فأمّ به جبريل البيت لذلك ، واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا لاستمالة اليهود ، أو أن استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس ثم نسخ بالكعبة ، لما قاله ابن العربي وغيره من أن القبلة نسخت مرتين ، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الأول ، ويدل لهذا الأخير ما قدمناه من راوية ابن شبة.
وقوله في حديث الشموس المتقدم «حتى يهصره الحجر» أي : يميله. وأورده المجد من رواية الخطابي بلفظ آخر ، فقال : وروى الخطابي عن الشموس بنت النعمان قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين بنى مسجد قباء يأتي بالحجر قد صهره (١) إلى بطنه فيضعه ، فيأتي الرجل يريد أن يقله فلا يستطيع حتى يأمره أن يدعه ويأخذ غيره ، ثم قال : صهره وأصهره إذا ألصقه بالشيء ، ومنه اشتقاق الصهر في القرابة.
وروى ابن شبة أيضا أن عبد الله بن رواحة كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء :
أفلح من يعالج المساجدا
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «المساجدا» فقال عبد الله :
ويقرأ القرآن قائما وقاعدا
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «وقاعدا» فقال عبد الله :
ولا يبيت الليل عنه راقدا
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «راقدا» ، والله أعلم.
__________________
(١) صهر الشيء إليه : قرّبه وأدناه.