قال البدر بن فرحون وغيره : وما زال العلماء الأئمة يتحرجون من ذلك ، وفي أيام القاضي السراج ـ وهو أول قاض ولي لأهل السنة ـ فمن بعده كانت ترفع تلك الحفيرة بالرمل حتى تزول الكراهة ، إلى أيام الشرف الأسيوطي ، فأراد طمس الحفرة أو رفعها وإزالة الخشب المنقوش أمامها الآتي ذكره ، فقام عليه بعض الناس من الخدام ، واستعانوا عليه بالأشراف ، فكف وانتقل عن المحراب ، وصار يصلي إلى الأسطوانة التي تقابل أسطوانة الوفود ـ أي من مقدم الروضة ـ ولزمها إلى أن مات ، وصار من الفقهاء من يرفع الكراهة بما يحصل من القرب إلى مقامه صلىاللهعليهوسلم وموضع قدمه ، وهذه نزغة ؛ فقد كان النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه في الموقف سواء ، فمن خالف سنته بالهوى فقد غوى.
قلت : وهذه الحفرة بعيدة من موقف النبي صلىاللهعليهوسلم لعلو الأرض ؛ لما سيأتي عن البدر بن فرحون أنهم وجدوا عند تجديد المنارة التي بباب السلام باب مروان وتحصيب المسجد الشريف القديم بعد حفر قامة ، ولما اتضح لنا في العمارة الآتي ذكرها ؛ فقد اعتبرت أرض الحجرة الشريفة وأرض المسجد ، فكان بينهما من التفاوت ذراعان ونصف وأزيد ، لكن مقتضى ما ظهر من الرخام الذي وصفه ابن زبالة حول المنبر ومشاهدتنا لما انكشف منه فيما بين المنبر والأساطين التي خلفه عدم بعض أرض هذه الحفرة من محل الموقف الشريف في ذلك العصر ؛ لأن نسبة ما بين هذه الحفرة والرخام المذكور أقل من نصف ذراع ، وقد حققت مسألة انخفاض المصلى الشريف في كتابي الموسوم «بكشف الجلباب والحجاب عن القدوة في الشباك والرحاب» ولم يتحرر لي ابتداء ترخيم المصلى الشريف وجعله على هذه الهيئة ، وسماه ابن جبير في رحلته بالروضة الصغيرة ، وقال : إن الإمام يصلي بالروضة الصغيرة المذكورة إلى جانبها الصندوق ، وقال قبل ذلك في وصفها : وبإزائها لجهة القبلة عمود مطبق يقال : إنه على بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلىاللهعليهوسلم وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق ، انتهى.
ولم يذكر فيها ترخيما ولا انخفاضا ، مع ذكره لذلك في المحل الذي عليه المنبر كما سيأتي ، والظاهر أن حدوث انخفاض المصلى الشريف بما حوله تجدد بعد الحريق الأول ، وقد اقتضى رأي متولي العمارة الحادثة بعد الحريق الثاني أن يخفض أرض المسجد حتى تكون مساوية للمصلى الشريف ، فقطع من الأرض نحو ذراع ؛ فكانوا يجدون طبقة من التراب ، وتليها طبقة من الرمل ، حتى وصلوا إلى الأرض المساوية للمصلى الشريف ، وظهر لهم الرخام الذي كان عليه المنبر الشريف بعد حفر نحو نصف ذراع ، وحصل بذلك إزالة هذه البدعة ، ولله الحمد والمنة.
وكان في قبلة المصلى الشريف صندوق خشب بديع الصنعة يعلوه محراب قد أمتج