أوطانا ، ولو لم يكن إلا جواره صلىاللهعليهوسلم بها وقد قال صلىاللهعليهوسلم «ما زال جبريل يوصيني بالجار» الحديث ، ولم يخص جارا دون جار ، ولا يخرج أحد عن حكم الجار وإن جار ، ولهذا اخترت تفضيل سكناها على مكة ، مع تسليم مزيد المضاعفة لمكة ؛ إذ جهة الفضل غير منحصرة في ذلك ؛ فتلك لها مزيد العدد ، ولهذه تضاعف البركة والمدد ، ولتلك جوار بيت الله ، ولهذه جوار حبيب الله وأكرم الخلق على الله ، سر الوجود ، والبركة الشاملة لكل موجود.
قال عياض في المدارك : قال مصعب : لما قدم المهدي المدينة استقبله مالك وغيره من أشرافها على أميال ، فلما بصر بمالك انحرف المهدي إليه فعانقه وسلّم عليه وسايره ، فالتفت مالك إلى المهدي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك تدخل الآن المدينة فتمر بقوم عن يمينك ويسارك ، وهم أولاد المهاجرين والأنصار ، فسلم عليهم ؛ فإنه ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة ، ولا خير من المدينة ، قال : ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال : إنه لا يعرف قبر محمد صلىاللهعليهوسلم عندهم فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم ، ففعل المهدي ما أمره به ، فأشار مالك ـ رحمهالله! ـ إلى أن المقتضى للتفضيل هو وجود قبر النبي صلىاللهعليهوسلم بها ، ومجاورة أهلها له.
الفصل الرابع
في بعض دعائه صلىاللهعليهوسلم لها ولأهلها ، وما كان بها من الوباء ، ونقله
حب النبي صلىاللهعليهوسلم للمدينة
روينا في الصحيحين حديث «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» ورواه رزين العبدري والجندي بالواو بدل «أو» مع أن أوفى تلك الرواية بمعنى بل ، وقد صح عنه صلىاللهعليهوسلم في محبة المدينة ما لم يرد مثله لمكة ؛ ففي صحيح البخاري وجامع الترمذي حديث «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته (١) ، وإن كان على دابة حركها من حبها» وفي رواية لابن زبالة «تباشرا بالمدينة» ، وفي رواية له «كان إذا أقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه عن منكبيه وقال : هذه أرواح طيبة» وقد تكرر دعاؤه صلىاللهعليهوسلم بتحبيب المدينة إليه كما سيأتي ، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول ، والتكرير لطلب الزيادة ، وفي كتاب الدعاء للمحاملي وغيره عن أنس رضياللهعنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه «كان إذا قدم من سفر من أسفاره فأقبل على المدينة يسير أتم السير ، ويقول : اللهم اجعل لنا بها قرارا ، ورزقا حسنا».
__________________
(١) أوضع راحلته : حملها على السير السريع.