الحديد المستعمل في القماش بمصر الآن ذراع إلا ثمن ذراع ، كما اعتبرته أنا وغيري ، ومشى عليه التقي الفاسي في تاريخ مكة المشرفة ، وليكن ذلك على ذكر منك إذا مررت بشيء مما ضبطناه في المسافات في كتابنا هذا ، وقيل : الميل ستة آلاف ذراع ، ومشى عليه النووي ، وهو بعيد ، ولعل قائله هو الذي يجعل الإصبع في الذراع ثلاث شعيرات فقط ، وقيل : الميل ألفا ذراع ، والصواب ما قدمناه ، والله أعلم.
الفصل الثاني عشر
في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم
حكمة التخصيص
اعلم أن المفهوم من تحريم ذلك تشريف المدينة الشريفة وتعظيمها به لحلول أشرف المخلوقين صلوات الله وسلامه عليه ، وانتشار أنواره وبركاته بأرضها ، وكما أن الله تعالى جعل لبيته حرما تعظيما له جعل لحبيبه وأكرم الخلق عليه ما أحاط بمحله حرما تلتزم أحكامه ، وتنال بركاته ، ويوجد فيه من الخير والبركة والأنوار المنتشرة والسلامة العاجلة والآجلة ما لا يوجد في غيره ، ولهذا حث النبي صلىاللهعليهوسلم بني حارثة على الكون به ، كما أشار إليه بقوله : «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم» ثم التفت فقال : «بل أنتم فيه» وذلك لخصوصية الكون فيه على الكون خارجه ، وتخصيص ذلك المقدار إما أن يكون لما شاهده صلىاللهعليهوسلم فيه من أمر رباني ، وسر روحاني بثه الله فيه إلى تلك الحدود المتقدمة ، وقد ذكر أهل الشهود أنهم يشاهدون الأنوار منبثة في الحرم وأهله إلى حدوده ، ولها منابع تفيض عنها ، وذلك في الحرمين جميعا ، فترتبت الأحكام الظاهرة على تلك الحقائق الباطنة ، ولهذا لما بلغت النار الآتي ذكرها طرف هذا الحرم الشريف طفئت كما سيأتي ، وإما أن يكون بمقتضى أمر إلهي ، ووحي رباني لا ندركه نحن ؛ إذ العقول البشرية قاصرة عن إدراك معاني الأحكام المتلقاة عن النبوة ، وإنما يظهر لها لايحه من شوارق مطالعها عند التأييد والتسديد ، هدانا الله لإدراكها بمنه وكرمه.
وجوه تذكر في حكمة التحديد
وقد قيل في حكمة تحديد الحرم المكي أشياء يمكن مثلها هنا ؛ فقيل : لما أهبط آدم إلى الأرض أرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب ووقفوا في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم عليهالسلام ، فصار ذلك حرما. وقيل : لما وضع الخليل عليهالسلام الحجر الأسود في الكعبة حين بناها ـ وهو من أحجار الجنة ـ أضاء الحجر من الجهات الأربع ، فحرم الله تعالى الحرم من حيث انتهى النور. وقيل : إن الله تعالى أمر جبريل عليهالسلام