علقمة والأسود وعمرو بن ميمون من التابعين ، ولعل سببه عندهم كما قال السبكي إيثار الزيارة ، وممن اختار البداءة بمكة ثم إتيان المدينة والقبر الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، ففي فتاوى أبي اللّيث السّمرقندي : روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال : الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة ، فإذا قضى نسكه مر بالمدينة ، وإن بدأ بها جاز ، فيأتي قريبا من قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيقوم بين القبر والقبلة.
وقد أوضح السبكي أمر الإجماع على الزيارة قولا وفعلا ، وسرد كلام الأئمة في ذلك ، وبين أنها قربة بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس.
أما الكتاب فقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النساء : ٦٤] الآية دالة على الحث بالمجيء إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ، والاستغفار عنده ، واستغفار لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين ؛ لقوله تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [محمد : ١٩] فإذا وجد مجيئهم فاستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته. وقوله : (اسْتَغْفَرَ لَهُمُ) معطوف على قوله : (جاؤُكَ) فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنا لا نسلم أنه لا يستغفر بعد الموت ؛ لما سبق من حياته ومن استغفاره لأمته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه ، ويعلم من كمال رحمته أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه.
والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة ، واستحبوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر الله تعالى ، وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العتبي ، واسمه محمد بن عبيد الله بن عمرو ، أدرك ابن عيينة وروى عنه ، وهي مشهورة حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب ، واستحسنوها ، ورأوها من أدب الزائر ، وذكرها ابن عساكر في تاريخه ، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن ، وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي ، قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبي صلىاللهعليهوسلم ، فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثم قال : يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إلى قوله (رَحِيماً) وإني جئتك مستغفرا ربك من ذنوبي ، متشفعا بك ، وفي رواية : وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ، ثم بكى وأنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه |
|
فطاب من طيبهن القاع والأكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه |
|
فيه العفاف وفيه الجود والكرم |