قال السبكي : ويشكل عليه حديث «من زار قبري» إلا أن يكون لم يبلغ مالكا ، أو لعله يقول : المحذور في قول غيره صلى الله تعالى عليه وسلم ، مع أن ابن رشد نقل عن مالك أنه قال : وأكره ما يقول الناس زرت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأعظم ذلك أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يزار.
قال ابن رشد : ما كره مالك هذا إلا من وجه أن كلمة أعلى من كلمة ، فلما كانت الزيارة تستعمل في الموتى وقد وقع من الكراهة ما وقع كره أن يذكر مثل ذلك في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقيل : كرهه لأن المضي إلى قبره ليس ليصله بذلك ولا لينفعه ، وإنما هو رغبة في الثواب ، انتهى ملخصا.
والأخير هو المختار في تأويل كلام مالك كما قاله السبكي ، قال : والمختار عندنا أنه لا يكره إطلاق هذا اللفظ.
ويستدل أيضا بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية ، على مشروعية السفر للزيارة وشدّ الرحال إليها ، على ما سبق تقريره بشموله المجيء من قرب ومن بعد ، وبعموم قوله «من زار قبري» وقوله في الحديث الذي صححه ابن السكن «من جاءني زائرا» وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر إليها كذلك ، وقد ثبت خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لزيارة قبور الشهداء ، فإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد ، وحينئذ فقبره صلى الله تعالى عليه وسلم أولى ، وقد انعقد الإجماع على ذلك ؛ لإطباق السلف والخلف عليه. وأما حديث «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فمعناه لا تشدوا الرحال إلى مسجد إلا إلى المساجد الثلاثة ، إذ شدّ الرحال إلى عرفة لقضاء النسك واجب بالإجماع ، وكذلك سفر الجهاد والهجرة من دار الكفر بشرطه ، وغير ذلك ، وأجمعوا على جواز شد الرحال للتجارة ومصالح الدنيا.
وقد روى ابن شبة بسند حسن أن أبا سعيد يعني الخدري رضي الله تعالى عنه ـ ذكر عنده الصلاة في الطور ، فقال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا ينبغي للمطيّ أن تشدّ رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» فهذا الحديث صريح فيما ذكرناه ، على أن في شدّ الرحال لما سوى هذه المساجد الثلاثة مذاهب : نقل إمام الحرمين عن شيخه أنه أفتى بالمنع ، قال : وربما كان يقول : يكره ، وربما كان يقول : يحرم ، وقال الشيخ أبو علي : لا يكره ولا يحرم ، وإنما أبان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة ، وما عداها ليس قربة.