وكأنى أنظر إلى أبى دجانة (١) يومئذ ما يولى ظهره منهزما ، وما هو إلا فى نحور القوم ، حتى قتل رحمهالله ، وكان يختال فى مشيته عند الحرب سجية ، ما يستطيع غير ذلك. قال : وكرت عليه طائفة من بنى حنيفة ، فما زال يضرب بالسيف أمامه وعن يمينه وعن شماله ، فحمل على رجل فصرعه ، وما ينبس بكلمة ، حتى انفرجوا عنه ونكصوا على أعقابهم ، والمسلمون مولون ، وقد ابيض ما بينهم وبينه ، فما ترى إلا المهاجرين والأنصار ، لا والله ما أرى أحدا يخالطهم ، فقاموا ناحية ، وتلاحق الناس ، فدفعوا حنيفة دفعة واحدة ، فانتهينا بهم إلى الحديقة ، فأقحمناهم إياها.
قال أبو دجانة : ألقونى على الترسة حتى أشغلهم ، فكانوا قد أغلقوا الحديقة ، فأخذوه فألقوه على الترسة ، حتى وقع فى الحديقة ، وهو يقول : لا ينجيكم منا الفرار ، فضاربهم حتى فتحها ، ودخلنا عليه مقتولا رحمهالله.
وقد روى أن البراء بن مالك هو المرمى به فى الحديقة ، والأول أثبت.
وقال ثابت بن قيس ، يومئذ : يا معشر الأنصار ، الله الله ودينكم ، علمنا هؤلاء أمرا ما كنا نحسنه ، ثم أقبل على المسلمين ، فقال : أف لكم ولم تعملون ، ثم قال : خلوا بيننا وبينهم ، أخلصونا ، فأخلصت الأنصار ، فلم يكن لهم ناهية حتى انتهوا إلى محكم بن الطفيل ، فقتلوه ، ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها ، فقاتلوا أشد القتال ، حتى اختلطوا فيها ، فما يعرف بعضهم بعضا إلا بالشعار ، وشعارهم : أمت أمت ، ثم صاح ثابت صيحة يستجلب بها المسلمين : يا أصحاب سورة البقرة ، يقول رجل من طيئ : والله ما معى منها آية ، وإنما يريد ثابت : يا أهل القرآن.
وقال واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ : لما زحف المسلمون ، انكشفوا أقبح الانكشاف ، حتى ظن ظانهم أن لا تكون لهم فئة فى ذلك اليوم ، والناس أوزاع قد هدأ حسهم. وأشرت حنيفة وأظهروا البغى ، وأوفى عباد بن بشر على نشز من الأرض ، ثم صاح بأعلى صوته : أنا عباد بن بشر ، يا للأنصار ، يا للأنصار ، ألا إلى ، ألا إلى ، فأقبلوا إليه جميعا ، وأجابوه : لبيك لبيك ، حتى توافوا عنده ، فقال : فداكم أبى وأمى ، حطموا جفون السيوف ، ثم حطم جفن سيفه ، فألقاه ، وحطمت الأنصار جفون سيوفهم ، ثم قال : حملة صادقة ، اتبعونى ، فخرج أمامهم حتى ساقوا حنيفة منهزمين ، حتى انتهوا بهم
__________________
(١) اسمه : سماك بن خرشة ، انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٩٦٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٨٦٦) ، معجم رجال الحديث (٢١ / ١٥١) ، تنقيح المقال (٣ / ١٥).