قال عبد الله بن قرط (١) : وبعثنى بكتابه ، فلما قدمت على عمر دعا المهاجرين والأنصار فقرأ عليهم كتاب أبى عبيدة ، فبكى المسلمون بكاء شديدا ، ورفعوا أيديهم ورغبتهم إلى الله عزوجل ، أن ينصرهم ، وأن يعافيهم ويدفع عنهم ، واشتدت شفقتهم عليهم ، وقالوا : يا أمير المؤمنين ، ابعثنا إلى إخواننا ، وأمر علينا أميرا ترضاه لنا ، أو سر أنت بنا إليهم ، فو الله إن أصيبوا فما فى العيش خير بعدهم ، قال : ولم أر منهم أحدا كان أظهر جزعا ولا أكثر شفقا من عبد الرحمن بن عوف ، ولا أكثر قولا لعمر : سر بنا يا أمير المؤمنين ، فإنك لو قدمت الشام شد الله قلوب المسلمين ، ورعب قلوب الكافرين. قال : واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أن يقيم عمر ويبعث المدد ، ويكون ردءا للمسلمين. قال : فقال لى عمر رحمهالله : كم كان بين الروم وبين المسلمين يوم خرج؟ فقلت : نحو من ثلاث ليال. فقال عمر : هيهات متى يأتى هؤلاء غياثنا.
ثم كتب معى إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك ، تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا ، وبما جاشوا به عليكم من أساقفتهم ورهبانهم ، وأن ربنا المحمود ذا الصنع العظيم والمن الدائم قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدا صلىاللهعليهوسلم بالحق فنصره بالرعب وأعزه بالنصر ، وقال وهو لا يخلف الميعاد : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف : ٩] ، فلا يهولنك كثرة من جاءك منهم فإن الله منهم برىء ، ومن برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرته ، وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله ، ولا يوحشنك قلة المسلمين فى المشركين ، فإن الله معك ، وليس قليلا من كان الله معه ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم إن شاء الله ، وستظهر بالله عليهم ، وكفى بالله ظهيرا ووليا وناصرا.
وقد فهمت مقالتك : احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا ، أو دينهم إن هم هربوا ، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله. وايم الله ، لو لا استثناؤك هذا لقد كنت أسأت لعمرى ، لئن أقام المسلمون وصبروا فأصيبوا ، لما عند الله خير للأبرار ، ولقد قال الله تعالى فيهم : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٢٣] ، فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين أسوة بالمصرعين حول رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى مواطنه ، فما عجز الذين قاتلوا فى سبيل الله ولا هابوا لقاء الموت فى جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح دمشق (١٨١ ـ ١٨٤).