كأنها أعراض الجبال ، فكشفنا خيلهم حتى لحقت بالصفوف ، وحمل خالد وأصحابه على من يليه منهم ، فكشفوهم حتى ألحقوهم بالصفوف ، وحمل عمرو بن الطفيل وميسرة بن مسروق فى أصحابهما حتى ألحقوهم بالصفوف ، ثم إن خالدا أمر خيله فانصرفت عنهم ثم أقبل بها حتى لحق بجماعة المسلمين وقد أراهم الله السرور فى المشركين.
قال : وتلاومت بطارقة الروم ، وقال بعضهم لبعض : جاءتكم خيل لعدوكم ليست بالكثيرة فكشفت خيولكم من كل جانب ، فأقبلت منهم كتائب فى أثر كتائب ، فطيفوا الأرض مثل الليل والسيل ، كأنها الجراد السود ، وظن المسلمون أنهم يخالطونهم ، والمسلمون جراء عليهم سراع إليهم ، فأقبلوا حتى إذا دنوا من جماعة المسلمين وقفوا ساعة وقد هابوا المسلمين وامتلأت صدورهم خوفا منهم ، فقال خالد للناس : قد رجعنا عنهم ولنا الظفر عليهم ، فاثبتوا لهم ساعة ، فإن أقدموا علينا قاتلناهم ، وإن رجعوا عنا كان لنا الظفر والفضل عليهم ، فأخذوا يقتربون ثم يرجعون ، والمسلمون فى مصافهم وتحت راياتهم سكوت لا يتكلم رجل منهم كلمة إلا أن يدعو الله فى نفسه ويستنصره على عدوه ، فلما نظرت الروم إلى خيل المسلمين ورجالتهم ومصافهم وحدهم وجدهم وصبرهم وسكونهم ألقى الله عزوجل ، الرعب فى قلوبهم منهم ، فواقفوهم ساعة ثم انصرفوا راجعين عنهم إلى عسكرهم ، فاجتمعت بطارقتهم وعظماؤهم إلى باهان وهو أصبر جماعتهم.
فقال لهم باهان : إنى قد رأيت رأيا وأنا ذاكره لكم ، إن هؤلاء القوم قد نزلوا بلادكم وركبوا من مراكبكم وطعموا من طعامكم ولبسوا من ثيابكم ، فعدل الموت عندهم أن يفارقوا ما تطعموه من عيشكم الرفيع ودنياكم التي لم يروا مثلها قط ، وقد رأيت أن أسألهم إن رأيتم ذلك أن يبعثوا إلينا رجلا منهم له عقل فنناطقه ونشافهه ونطمعهم فى شيء يرجعون به إلى أهاليهم ، لعل ذلك يسخى بأنفسهم عن بلادنا ، فإن هم فعلوا ذلك كان الذي يريدون منا قليلا فيما نخاف وندفع به خطر الوقعة التي لا ندرى أعلينا تكون أم لنا ، فقالوا له : قد أصبت وأحسنت النظر لجماعتنا ، فاعمل برأيك.
فبعث رجلا من خيارهم وعظمائهم يقال له جرجة إلى أبى عبيدة ، فقال له : إنى رسول باهان عامل ملك الروم على الشام ، وعلى هذه الجنود ، وهو يقول لك : أرسل إلىّ الرجل الذي كان قبلك أميرا فإنه ذكر لى أنه رجل ذو عقل وله فيكم حسب ، وقد سمعنا أن عقول ذوى الأحساب أفضل من عقول غيرهم ، فنخبره بما نريد ونسأله عما تريدون ، فإن وقع فيما بيننا وبينكم أمر لنا ولكم فيه صلاح أو رضى أخذنا به وحمدنا الله عليه ، وإن لم يتفق ذلك كان القتال من ورائنا هنالك.