بلادنا رخيص ، وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا بالحجاز ، فقال عمر : والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لى أرزاق المسلمين فى كل شهر ، ثم قال : انظروا ، كم يكفى الرجل ويسعه فى كل يوم ، فقالوا : كذا وكذا ، فقال : كم يكون ذلك فى الشهر ، قالوا : جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال ، فضمنوا له ذلك ، ثم قال : يا معشر المسلمين ، هذا لكم سوى أعطياتكم ، فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضته لكم وأعطوكموه فى كل شهر ، فذلك ما أحب ، وإن هم لم يفعلوا ، فأعلمونى حتى أعزلهم عنكم ، وأولى أمركم غيرهم ، فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك.
وعن شهر بن حوشب (١) : أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير ، كان فى قدوم عمر الشام ، وأن كعبا أخبره بأمره ، وكيف كان ذلك.
قال : وكان أبوه من مؤمنى أهل التوراة برسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان من عظمائهم وخيارهم.
قال كعب : وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة ، وبكتب الأنبياء ، ولم يكن يدخر عنى شيئا مما كان يعلم ، فلما حضرته الوفاة دعانى فقال : يا بنى قد علمت أنى لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم ، إلا أنى حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبى يبعث ، وقد أظل زمانه ، فكرهت أن أخبرك بذلك ، فلا آمن عليك بعد وفاتى أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه ، وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما فى هذه الكوة التي ترى ، وطينت عليهما ، فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك هذا ، وأقرهما فى موضعهما حتى يخرج ذلك النبيّ ، فإذا خرج فاتبعه ، وانظر فيهما ، فإن الله يزيدك بذلك خيرا.
فلما مات والدى لم يكن شيء أحب إلىّ من أن ينقضى المأتم حتى أنظر فى الورقتين ، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ، ثم استخرجت الورقتين ، فإذا فيهما : محمد رسول الله ، خاتم النبيين ، لا نبى بعده ، مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ويصفح ، أمته الحمادون ، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال ، وتذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه ، يغسلون فروجهم بالماء ،
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٩ ـ ٢٦٢).