ويأتزرون على أوساطهم ، وأناجيلهم فى صدورهم ، ويأكلون قربانهم فى بطونهم ، ويؤخرون عليها ، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم ، فلما قرأت هذا قلت فى نفسى : والله ما علمنى أبى شيئا هو خير لى من هذا ، فمكثت بذلك ما شاء الله ، حتى بعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم وبينى وبينه بلاد بعيدة ، منقطعة ، لا أقدر على إتيانه ، وبلغنى أنه خرج فى مكة ، وهو يظهر مرة ويستخفى مرة ، فقلت : هو هذا ، وتخوفت ما كان والدى حذرنى وخوفنى من الكذابين ، وجعلت أحب أتبين وأ تثبت ، فلم أزل بذلك حتى بلغنى أنه قد أتى المدينة ، فقلت فى نفسى : إنى لأرجو أن يكون إياه ، وجعلت ألتمس السبيل إليه ، فلم يقدر لى حتى بلغنى أنه قد توفى صلوات الله عليه وسلامه.
فقلت فى نفسى : لعله لم يكن الذي كنت أظن ، ثم بلغنى أن خليفته قام مقامه ، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده ، فقلت فى نفسى : لا أدخل فى هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم ، فلم أزل أدفع ذلك وأؤخر لأتبين وأ تثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب ، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد ، وما صنع الله لهم على الأعداء ، علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر ، فحدثت نفسى بالدخول فى الإسلام ، فو الله إنى ذات ليلة فوق سطح لى ، إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى ، حتى أتى على هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧].
قال : فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهى فى قفاى ، فما كان شيء أحب إلىّ من الصباح ، فغدوت على عمر ، فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافه عن الشام : يا أمير المؤمنين ، إنه مكتوب فى كتاب الله : إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل ، وكانوا أهلها ، مفتوحة على رجل من الصالحين ، رحيم بالمؤمنين ، شديد على الكافرين ، سره مثل علانيته ، وعلانيته مثل سره ، وقوله لا يخالف فعله ، والقريب والبعيد عنده فى الحق سواء ، وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار ، متراحمون متواصلون متباذلون.
فقال له عمر : ثكلتك أمك ، أحق ما تقول؟ قال : أى والذي أنزل التوراة على موسى ، والذي يسمع ما نقول ، إنه لحق.