وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف فى الحصن بعد المقوقس ، وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدى المقوقس ، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ، فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.
قال أصحاب الحديث من التابعين : فأرسل المقوقس إلى عمرو : إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا وألححتم على قتالنا ، وطال مكثكم فى أرضنا ، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم العدة والسلاح ، وأحاط بكم هذا النيل ، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا ، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم ، فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب ، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم.
فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس ، فقال لأصحابه : أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو أن يروا حال المسلمين ، ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله ، وقال لهم : إنه ليس بينى وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال : إما دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا ، وكان لكم ما لنا ، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.
فلما جاءوا إلى المقوقس قال لهم : كيف رأيتم؟ قالوا : رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، والتواضع أحب إليه من الرفعة ، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة ، إنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركبهم ، وأميرهم كواحد منهم ، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد ، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم ، يغسلون بالماء أطرافهم ، ويخشعون فى صلاتهم.
فقال عند ذلك المقوقس : والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد ، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.
فرد إليهم المقوقس رسله : أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت ، وأمره عمرو أن يكون